الحمد لله.
أولاً :
اختلف العلماء في حكم لبس اللباس الداخلي للرجل الذي يغطي العورة المغلظة وهو ما يسميه العلماء بـ " التُّبَّان " فذهب بعضهم إلى جوازه من غير ضرورة ولا حاجة ، وقالوا : بأنه لم يرد النص في المنع منه فيما لا يلبسه المحرم .
وذهب الجمهور إلى أن لبسه ممنوع ، وأنه يقاس على السراويل ، بل ذهب بعض العلماء إلى أنه أولى بالمنع منه ،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
" وكذلك التبان أبلغ من السراويل " انتهى .
" مجموع الفتاوى " ( 21 / 206 ) .
وقال ابن القيم – رحمه الله - :
" قال المزني : الفقهاء من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا وهلم جرّاً استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم .
قال :
وأجمعوا بأن نظير الحق حق ، ونظير الباطل باطل ، فلا يجوز لأحد إنكار القياس ، لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها ... .
ومن ذلك : نهي النبي صلى الله عليه وسلم المُحرم عن لبس القميص والسراويل والعمامة والخفين ، ولا يختص ذلك بهذه الأشياء فقط ، بل يتعدى النهي إلى الجباب والأقبية و الطاقية والجوربين والتبان ، ونحوه" انتهى باختصار .
" إعلام الموقعين " ( 1 / 205 – 207 ) .
وبه يتبين خطأ من استدل بجواز لبس التبان بكونه لم يُنص عليه في الحديث الذي بيَّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يلبسه المحرم .
قال ابن عبد البر – رحمه الله - :
وفي معنى ما ذكر في هذا الحديث من القمص والسراويلات والبرانس يدخل المخيط كله بأسره ، فلا يجوز لباس شيء منه للمحرم ، عند جميع أهل العلم .
" التمهيد " ( 15 / 104 ) .
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
" قال عياض : أجمع المسلمون على أن ما ذُكر في هذا الحديث لا يلبسه المحرم ، وأنه نبَّه بالقميص والسراويل على كل مخيط ، وبالعمائم والبرانس على كل ما يغطي الرأس به مخيطاً أو غيره ، وبالخفاف على كل ما يستر الرجل . انتهى .
وخصَّ ابن دقيق العيد الإجماع الثاني بأهل القياس ، وهو واضح .
والمراد بتحريم المخيط : ما يلبس على الموضع الذي جعل له ، ولو في بعض البدن " انتهى.
" فتح الباري " ( 3 / 402 ) .
واستدل من قال بجواز لبس المحرم للتبان بما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها أجازت لبسه للحمَّالين ، وما ورد عن عمَّار بن ياسر رضي الله عنه أنه كان يلبسه .
أ. أثر عائشة :
قال البخاري – رحمه الله – في " صحيحه " ( 2 / 558 ) - :
باب الطيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم... ولم تر عائشة رضي الله عنها بالتُبَّانِ بأساً للذين يرحلون هودجها .
انتهى
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
" وقد وصل أثر عائشة : سعيد بن منصور ، من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة : " أنها حجت ومعها غلمان لها ، وكانوا إذا شدوا رحلها يبدو منهم الشيء ، فأمرتهم أن يتخذوا التبابين ، فيلبسونها وهم محرمون " .
وفي هذا رد على ابن التين في قوله " أرادت النساء " ؛ لأنهن يلبسن المخيط ، بخلاف الرجال ، وكأن هذا رأي رأته عائشة ، وإلا فالأكثر على أنه لا فرق بين التبان والسراويل في منعه للمحرم ". انتهى من " فتح الباري " ( 3 / 397 )
وقد يُجاب عن هذا بأن عائشة رضي الله عنها أمرتهم بلبسه للضرورة ، لأن عورتهم كانت تنكشف ، فلا يدل على جواز لبسه بدون ضرورة .
ب. أثر عمار :
روى ابن أبي شيبة عن حبيب بن أبي ثابت قال : رأيت على عمار بن ياسر تُبَّاناً ، وهو بعرفات .
" مصنف ابن أبي شيبة " ( 6 / 34 ) .
وهذا محمول على الضرورة ، حيث ورد عند ابن شبة في " أخبار المدينة " ( 3 / 1100 ) ما يدل على إصابة عمار بن ياسر رضي الله عنه زمن عثمان بن عفان رضي الله ، وفيه قوله " فلا يستمسك بولي " .
وفي " النهاية في غريب الأثر " ( 2 / 126 ) :
وفي حديث عبد خير قال : رأيت على عمار دقرارة ، وقال : " إني ممثون "
الدقرارة : التبَّان ، وهو السراويل الصغير الذي يستر العورة وحدها ، والممثون : الذي يشتكي مثانته .
وفي " لسان العرب " ( 13 / 71 ) :
وفي حديث عمار أنه صلَّى في تبَّان ، فقال : إني ممثون ، أي : يشتكي مثانته . انتهى
وهذه الآثار لو فرض عدم ثبوت آحادها : فهو يدل على أن لها أصلاً .
والصحيح : أنه يمنع الرجل المحرم من لبس التبَّان ، ويُحمل ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنه للضرورة ، وليس فيه نفي الفدية عمن لبسه .
ويُحمل ما ورد عن عمار بن ياسر أنه كان للضرورة بسبب إصابته في المثانة
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله - :
" وما ذُكر عن عائشة رضي الله عنها ظاهره أنها إنما رخّصت في التبان لمن يُرَحِّل هودجها لضرورة انكشاف العورة ، وهو يدل على أنه لا يجوز لغير ضرورة ، والعلم عند الله تعالى ". انتهى
" أضواء البيان " ( 5 / 464 ) .
ثانياً :
يجوز لبس التبان لمن كان يعمل في التحميل – مثلاً - ويَخشى انكشاف عورته ، كما يجوز لبسه لمن يتمزق جلده بسبب الاحتكاك ، ويخشى على نفسه الضرر ، ويجوز كذلك لمن به جرح في عورته ويحتاج لتغطيته ، ومثله من كان مبتلى بسلس البول – وهي حالة مشابهة لحالة عمار بن ياسر - ، وفي كل تلك الأحوال – وما يشبهها – على لابسه الفدية ، وهي : إطعام ستة مساكين ، أو صيام ثلاثة أيام ، أو ذبح شاة
قال تعالى : ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) البقرة/ 196 .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ : جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ الْفِدْيَةِ فَقَالَ نَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً ، حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ : ( مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى - أَوْ : مَا كُنْتُ أُرَى - الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى ، تَجِدُ شَاةً ؟ فَقُلْتُ : لَا . فَقَالَ : فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ )
رواه البخاري ( 1721 ) ومسلم ( 1201 )
وقد سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - : عن لبس المحرم للتبان ، لأنه إذا لم يلبسه لحقه ضرر .
فأجاب :
إن خاف أن يلحقه ضرر فلا بأس أن يلبسه ، ولكن إن حَصَّل أن يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع فهو أحسن .
" لقاءات الباب المفتوح " ( 177 / السؤال 16 ) .
وانظر أجوبة الأسئلة : ( 20870 ) و ( 49033 )
والله أعلم
تعليق