"قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ" هناك اختلاف بين المفسرين حول ما إذا كان الله تعالى أنزل المائدة أم لا. أرجوا أن تخبرونا رأيكم في هذا الأمر.
الحمد لله.
اختلف السلف في المائدة : هل أنزلها الله تعالى على أصحاب عيسى عليه السلام ، أم إنهم خافوا لما قال الله تعالى لنبيه عيسى : ( فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) فلم ينزلها عليهم ؟
فجمهور السلف على أن الله تعالى أنزلها عليهم ؛ لقوله عز وجل ( إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ ) ووعد الله حق لا يتخلف .
وهو المروي عن سلمان الفارسي وعمار بن ياسر وابن عباس ، وإسحاق بن عبد الله ووهب بن منبه وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة وعطية العوفي وأبي عبد الرحمن السلمي وعطاء بن السائب ، وغيرهم .
وقال مجاهد والحسن : لم ينزلها عليهم .
ووجه ذلك : أن الله لما أوعد على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم ، فاستعفوا عن إنزال المائدة ، فعلى هذا تقدير قوله : ( إني منزلها عليكم ) يعني إن سألتم ، إلا أنهم استعفوا فلم تنزل .
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله :
"والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألتَه ذلك ربَّه .
فإن الله تعالى ذكره لا يخلف وعدَه ، ولا يقع في خبره الْخُلف ، وقد قال تعالى ذكره مخبرًا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم ، حين سأله ما سأله من ذلك : ( إني منزلها عليكم ) ، وغير جائز أن يقول تعالى ذكره : ( إني منزلها عليكم ) ، ثم لا ينزلها ؛ لأن ذلك منه تعالى ذكره خبر ، ولا يكون منه خلاف ما يخبر . ولو جاز أن يقول : ( إني منزلها عليكم ) ، ثم لا ينزلها عليهم ، جاز أن يقول : ( فمن يكفر بعد منكم فإنّي أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين ) ، ثم يكفر منهم بعد ذلك فلا يعذّبه ، فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة. وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى ذكره بذلك " انتهى مختصرا .
"تفسير الطبري" (11/ 232)
وقال ابن كثير رحمه الله :
" وكل هذه الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل ، أيام عيسى ابن مريم ، إجابة من الله لدعوته ، وكما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم : ( قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ ) الآية .
وقد قال قائلون : إنها لم تنزل ، وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى ، وليس هو في كتابهم ، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما يتوفر الدواعي على نقله ، وكان يكون موجودًا في كتابهم متواترًا ، ولا أقل من الآحاد ، والله أعلم .
ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت ، وهو الذي اختاره ابن جرير، وهذا القول هو - والله أعلم- الصواب ، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم " انتهى مختصرا .
"تفسير ابن كثير" (3/230-231)
فالقول الصحيح في ذلك : أنها أنها نزلت فعلا ، وهو قول جمهور أهل العلم ، واختاره ابن الجوزي والسمعاني وأبي جعفر النحاس وابن جزي والقرطبي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن عاشور والشوكاني وغيرهم .
ينظر : "تفسير البغوي" (3/118) ، "زاد المسير" (2/462) ، "معاني القرآن" (2/387) ، "التسهيل" (1/342) ، تفسير القرطبي" (6/369)"التحرير والتنوير" (ص1236) ، "فتح القدير" (2/136) "الجواب الصحيح" (3/ 127) .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" ففي هذا بيان شيء من قدرة الله جل وعلا , وأنه سبحانه القادر على كل شيء قدير , وأنه سبحانه في العلو , لأن الإنزال يكون من الأعلى إلى الأسفل .
فإنزال المائدة وطلب إنزالها , كل ذلك دليل على أن القوم قد عرفوا أن ربهم في العلو , فهم أعرف بالله وأعلم به من الجهمية وأضرابهم ممن أنكر العلو . فالحواريون طلبوا ذلك ، وعيسى بين لهم ذلك ، والله بين ذلك أيضا , ولهذا قال : ( إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ) فدل ذلك على أن ربنا جل وعلا يطلب من أعلى , وأنه في العلو سبحانه وتعالى فوق السماوات وفوق جميع الخلائق وفوق العرش , قد استوى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته , لا يشابه خلقه في شيء من صفاته جل وعلا " انتهى .
"مجموع فتاوى ابن باز" (2/56-57)
والله تعالى أعلم .