الحمد لله.
ثانيا :
اختلف المفسرون في ضمير الغائب في كلمة ( عليه ) في قوله تعالى : ( فَأَنْزَلَ
اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) على من يعود ، وذلك على قولين :
القول الأول :
يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو " أشهر القولين " كما قال الحافظ ابن كثير
رحمه الله حيث جرى عليه كثير من المفسرين ، كالطبري في " جامع البيان " (14/261)،
والزمخشري في " الكشاف " (2/260)، وابن جزي في " التسهيل " (2/76)، والشنقيطي في "
أضواء البيان " (7/397)
والدليل عليه أن الضمير في قوله تعالى : ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا )
يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا واحدا ، فهو الذي أيده ربه بالملائكة ،
فيبعد أن يراد بالضمير الذي قبله في كلمة ( عليه ) غير النبي صلى الله عليه وسلم ،
كي لا يحصل الانتقال في الضمائر .
يقول ابن كثير رحمه الله :
" ( عليه ) أي : على الرسول في أشهر القولين ، وقيل : على أبي بكر ، وروي عن ابن
عباس وغيره ، قالوا : لأن الرسول لم تزل معه سكينة ، وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة
بتلك الحال ؛ ولهذا قال : ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) أي : الملائكة
" انتهى.
" تفسير القرآن العظيم " (4/155)
القول الثاني :
أنه يعود على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وهذا القول مروي عن الصحابي الجليل ابن
عباس رضي الله عنهما ولكن بإسناد ضعيف ، ومروي عن عن حبيب بن أبي ثابت من التابعين
.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
" ( سكينته عليه ) على أبي بكر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل السكينة معه
" انتهى.
رواه ابن أبي حاتم في " التفسير " (6/1801) ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق "
(30/87)، وعزاه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (7/9) للحاكم ، ولم نقف عليه في "
المستدرك "، ورواه الآجري في " الشريعة " (ص/1807) ت عبد الله الدميجي – دار الوطن
.
جميعهم من طريق علي بن مجاهد ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن
سعيد بن جبير ، عن ابن عباس به .
إلا أن الرواية عند الآجري من كلام سعيد بن جبير ، وليست من كلام ابن عباس .
وهذا إسناد ضعيف بسبب علي بن مجاهد ، قال فيه ابن معين : كان يضع الحديث . رغم أن
أحمد بن حنبل قال فيه : كتبت عنه ، ما أرى به بأسا . انظر : " تهذيب التهذيب "
(7/378)
كما ورد في " التهذيب " عن يحيى بن الضريس قال : علي بن مجاهد لم يسمع من ابن إسحاق
.
وعن حبيب ابن أبي ثابت قال :
" نزلت على أبي بكر ، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فكانت سكينته عليه قبل ذلك "
انتهى.
" تفسير ابن أبي حاتم " (6/1801) قال : حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس
وإبراهيم بن مهدي المصيصي والسياق لإبراهيم ، قالا : أخبرنا أبو معاوية ، ثنا عبد
العزيز بن سياه ، عن حبيب ابن أبي ثابت .
واختار هذا القول جماعة من محققي المفسرين ، بل نسبه السهيلي في " الروض الأنف "
(4/136) إلى أكثر أهل التفسير .
قال أبو جعفر النحاس رحمه الله :
" الأشبه على قول أهل النظر أن تكون تعود على أبي بكر ؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم قد كانت عليه السكينة ، وهي السكون والطمأنينة ؛ لأنه جل وعز أخبر عنه أنه قال
: ( لا تحزن إن الله معنا ) " انتهى.
" معاني القرآن " (3/210)
وقال ابن العربي المالكي رحمه الله :
" قال علماؤنا : وهو الأقوى ؛ لأن الصِّدِّيق خاف على النبي صلى الله عليه وسلم من
القوم ، فأنزل الله سكينته ليأمن على النبي صلى الله عليه وسلم ، فسكن جأشه ، وذهب
روعه ، وحصل له الأمن " انتهى.
" أحكام القرآن " (2/436) طبعة دار إحياء التراث .
وجاء في " مفاتيح الغيب " للفخر الرازي (16/53-54) ما نصه :
" ومن قال الضمير في قوله : ( عَلَيْهِ ) عائد إلى الرسول ، فهذا باطل لوجوه :
الوجه الأول : أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات ، وأقرب المذكورات المتقدمة
في هذه الآية هو أبو بكر ؛ لأنه تعالى قال : ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ ) والتقدير
: إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن . وعلى هذا التقدير : فأقرب المذكورات
السابقة هو أبو بكر ، فوجب عَوْدُ الضمير إليه .
والوجه الثاني : أن الحزن والخوف كان حاصلاً لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة
والسلام ، فإنه عليه السلام كان آمناً ، ساكن القلب بما وعده الله أن ينصره على
قريش ، فلما قال لأبي بكر : لا تحزن : صار آمناً ، فصَرْفُ السكينة إلى أبي بكر
ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه أولى من صرفها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، مع أنه
قبل ذلك ساكن القلب ، قوي النفس .
والوجه الثالث : أنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول لوجب أن يقال : إن
الرسول كان قبل ذلك خائفاً ، ولو كان الأمر كذلك لما أمكنه أن يقول لأبي بكر : (
لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) فمن كان خائفاً كيف يمكنه أن يزيل الخوف عن
قلب غيره ، ولو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يقال : فأنزل الله سكينته عليه ،
فقال لصاحبه : لا تحزن .
ولمَّا لم يكن كذلك ، بل ذكر أولاً أنه عليه الصلاة والسلام قال لصاحبه : لا تحزن ،
ثم ذكر بفاء التعقيب نزول السكينة وهو قوله : ( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ
عَلَيْهِ ) علمنا أن نزول هذه السكينة مسبوق بحصول السكينة في قلب الرسول عليه
الصلاة والسلام ، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن تكون هذه السكينة نازلة على قلب أبي
بكر " انتهى.
وقد أجاب أصحاب هذا القول على استدلال الفريق الأول
بعود الضمير في قوله تعالى ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) إلى النبي صلى
الله عليه وسلم بما يلي :
" فإن قيل : وجب أن يكون قوله : ( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) المراد
منه أنه أنزل سكينته على قلب الرسول ، والدليل عليه : أنه عطف عليه قوله : (
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا ) ، وهذا لا يليق إلا بالرسول ، والمعطوف
يجب كونه مشاركاً للمعطوف عليه ، فلما كان هذا المعطوف عائداً إلى الرسول وجب في
المعطوف عليه أن يكون عائداً إلى الرسول ؟
قلنا : هذا ضعيف ؛ لأن قوله : ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا ) إشارة إلى
قصة بدر ، وهو معطوف على قوله : ( فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ) وتقدير الآية : إلا
تنصروه فقد نصره الله في واقعة الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ، فأنزل
الله سكينته عليه ، وأيده بجنود لم تروها في واقعة بدر .
وإذا كان الأمر كذلك فقد سقط هذا السؤال " انتهى.
" مفاتيح الغيب " للفخر الرازي (16/53-54)
ثالثا :
على فرض ترجيح القول الأول ، فإن عود الضمير على النبي صلى الله عليه وسلم لا يعني
عدم تنزل السكينة أيضا على قلب الصديق رضي الله عنه ، بل إن سياق الآية يدل على
حصول السكينة لهما جميعا ، ولكنه عز وجل أفرد الضمير ليدل على وحدة الحال بين النبي
صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق ، وتوحد الشخصية التي تخاطب بضمير واحد .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" إذا حصل للمتبوع في هذه الحال سكينة وتأييد كان ذلك للتابع أيضا بحكم الحال ،
فإنه صاحب تابع لازم ، ولم يحتج أن يذكر هنا أبو بكر لكمال الملازمة والمصاحبة التي
توجب مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في التأييد ، بخلاف حال المنهزمين يوم حنين ،
فإنه لو قال : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُوله ) الفتح/26، وسكت لم
يكن في الكلام ما يدل على نزول السكينة عليهم لكونهم بانهزامهم فارقوا الرسول ،
ولكونهم لم يثبت لهم من الصحبة المطلقة التي تدل على كمال الملازمة ما ثبت لأبي بكر
، وأبو بكر لما وصفه بالصحبة المطلقة الكاملة ووصفها في أحق الأحوال أن يفارق
الصاحب فيها صاحبه - وهو حال شدة الخوف - كان هذا دليلا بطريق الفحوى على أنه صاحبه
وقت النصر والتأييد ، فإن من كان صاحبه في حال الخوف الشديد ، فلأن يكون صاحبه في
حال حصول النصر والتأييد أولى وأحرى ، فلم يحتج أن يذكر صحبته له في هذه الحال
لدلالة الكلام والحال عليها .
وإذا علم أنه صاحبه في هذه الحال ، علم أن ما حصل للرسول من إنزال السكينة والتأييد
بإنزال الجنود التي لم يرها الناس لصاحبه المذكور فيها أعظم مما لسائر الناس ، وهذا
من بلاغة القرآن وحسن بيانه ، وهذا كما في قوله : ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ
أَنْ يُرْضُوهُ ) التوبة/62 فإن الضمير في قوله : ( أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) إن
عاد إلى الله : فإرضاؤه لا يكون إلا بإرضاء الرسول ، وإن عاد إلى الرسول : فإنه لا
يكون إرضاؤه إلا بإرضاء الله ، فلما كان إرضاؤهما لا يحصل أحدهما إلا مع الآخر -
وهما يحصلان بشيء واحد ، والمقصود بالقصد الأول إرضاء الله وإرضاء الرسول تابع -
وحَّد الضمير في قوله : ( أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ )
وكذلك وحَّد الضمير في قوله : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) التوبة/40؛ لأن نزول ذلك على أحدهما يستلزم
مشاركة الآخر له ، إذ محال أن ينزل ذلك على الصاحب دون المصحوب ، أو على المصحوب
دون الصاحب الملازم ، فلما كان لا يحصل ذلك إلا مع الآخر وحَّد الضمير ، وأعاده إلى
الرسول ، فإنه هو المقصود ، والصاحب تابع له .
ولو قيل : ( فأنزل السكينة عليهما وأيدهما ) لأوهم أن أبا بكر شريك في النبوة ،
كهارون مع موسى حيث قال : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا
سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ
اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ) القصص/35، وقال : ( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى
وَهَارُونَ . وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ .
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ . وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ
الْمُسْتَبِينَ . وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) الصافات/114-118،
فذكرهما أولا وقومهما فيما يشركونهما فيه ، كما قال : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) الفتح/26
فلو قيل : ( أنزل الله سكينته عليهما وأيدهما ) لأوهم الشركة ، بل عاد الضمير إلى
الرسول المتبوع ، وتأييدُه تأييدٌ لصاحبه التابع له الملازم بطريق الضرورة .
ولهذا لم ينصر النبي صلى الله عليه وسلم قط في موطن ، إلا كان أبو بكر رضي الله عنه
أعظم المنصورين بعده ، ولم يكن أحد من الصحابة أعظم يقينا وثباتا في المخاوف منه .
ولهذا قيل : ( لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح ) كما في السنن عن أبي
بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( هل رأى أحد منكم رؤيا فقال رجل أنا رأيت
كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر ، ثم وزن أبو بكر
وعمر فرجح أبو بكر ، ثم وزن عمر وعثمان فرجح عمر ، ثم رفع الميزان ) فاستاء لها
النبي صلى الله عليه وسلم فقال : خلافة نبوة ، ثم يؤتي الله الملك من يشاء .
وقال أبو بكر بن عياش ما سبقهم أبو بكر بصلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه "
انتهى باختصار يسير . " منهاج السنة النبوية " (8/350353)
ويقول العلامة الآلوسي رحمه الله :
" في إنزالها على الرسول عليه الصلاة والسلام - مع أن المنزعج صاحبه - ما يرشد
المنصف إلى أنهما كالشخص الواحد " انتهى.
" روح المعاني " (10/100)
والله أعلم .