لماذا خاطب الله تعالى آدم وحده عندما تاب عليه في الآية رقم/37 من سورة البقرة ، فقال تعالى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ، ولم يقل الله تعالى : ( فتاب عليهما ) أي : آدم وحواء ؟
الحمد لله.
اجتهد المفسرون في تلمس وجه الحكمة في إفراد الضمير ( الهاء ) من قوله تعالى : (
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) البقرة/37 ، فقال عز وجل : ( فتاب عليه )، ولم يقل سبحانه
: ( فتاب عليهما )، مع أن كلا من آدم وحواء أكلا من الشجرة .
وبالتأمل والتدبر يتبين للناظر العديد من الأسباب والحكم التي يمكن من خلالها تفسير
هذا التساؤل .
أولا :
مَن تأمل سياق جميع الآيات الواردة في قصة آدم عليه السلام وأكله من الشجرة ، يعلم
أن الشخصية البارزة المقصودة في تلك القصة هو آدم عليه السلام وليس غيره ، لأنه أبو
البشر وأول الأنبياء ، لذلك فأكثر الآيات تتحدث عنه عليه السلام ، وتخاطبه بشخصه ،
وتذكره بضمير الغائب المفرد ، وتحكي تفاصيل أحداث قصته ، وتجعله الشخصية المركزية
فيها ، وهكذا - ومن ذلك نسبة العصيان إليه وحده كما سيأتي - ، يمكنك أن تقرأ ذلك في
سورة البقرة ، والأعراف ، وطه ، وغيرها ، فناسب أن تكون هذه الآية على السياق نفسه
.
ثانيا :
كثيرا ما يرد في نصوص الوحي في الكتاب والسنة تغليب استعمال ضمير المذكر ، ويراد به
ما يشمل الإناث أيضا ، حتى قال علماء أصول الفقه : إن الأصل في خطاب الذكور
بالتكاليف الشرعية أنه يشمل الإناث إلا ما ورد النص بتخصيصه .
بل كثيرا ما تستعمل اللغة العربية ضمير المذكر في السياقات التي تشمل الذكور
والإناث .
فالمؤنث في استعمال اللغة العربية والاستعمال الشرعي تابع للمذكر ، ولذلك لا تذكر
النساء في كثير من التكاليف والأخبار الشرعية .
ثالثا :
كما يمكننا أن نستأنس من استعمال ضمير المذكر وطي ذكر المؤنث : أن الستر أولى
بالمرأة من الذِّكر ، وأن الخطاب الشرعي يدعوها دائما إلى البعد عن حديث الرجال ،
خاصة في مقام الخطأ والمعصية ، لذلك طوى القرآن الكريم أيضا التصريح بنسبة المعصية
إلى حواء ، واقتصر ذلك على آدم عليه السلام ، وذلك في قوله عز وجل : ( وَعَصَى
آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى . ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى )
طه/121-122.
ثم إن أساليب اللغة العربية تتسع لهذا السياق القرآني ، كما في قول الشاعر :
رماني بأمر كنت منه ووالدي *** بريئا ومن فوق الطوي رماني .
فقال : ( بريئا ) ولم يقل : ( بريئين )، مع أن المقصود إثبات براءته هو ووالده .
وقد جاء في القرآن الكريم قوله عز وجل : ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ) التوبة/62. ولم يقل يرضوهما ، وقال سبحانه :
( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا ) الجمعة/11، ولم
يقل انفضوا إليهما، وذلك جريا على الإيجاز والاختصار، ومراعاة للمقصود الأعظم من
الأمرين .
وننقل ههنا من كلام المفسرين ما يؤيد أوجه الحِكَم السابقة :
قال الإمام القرطبي رحمه الله :
" إن قيل : لم قال : ( عليه ) ولم يقل : ( عليهما ) وحواء مشاركة له في الذنب
بإجماع ، وقد قال : ( ولا تقربا هذه الشجرة ) البقرة/35، و ( قالا ربنا ظلمنا
أنفسنا ) الأعراف/23 ؟
فالجواب :
أن آدم عليه السلام لما خوطب في أول القصة بقوله : ( اسكن ) خصه بالذكر في التلقي ،
فلذلك كملت القصة بذكره وحده .
وأيضا فلأن المرأة حرمة ومستورة ، فأراد الله الستر لها ، ولذلك لم يذكرها في
المعصية في قوله : ( وعصى آدم ربه فغوى ) طه/121.
وأيضا لما كانت المرأة تابعة للرجل في غالب الأمر لم تذكر ، كما لم يذكر فتى موسى
مع موسى في قوله : ( ألم أقل لك ) الكهف/75.
وقيل : إنه دل بذكر التوبة عليه أنه تاب عليها ، إذ أمرهما سواء ، قاله الحسن .
وقيل : إنه مثل قوله تعالى : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ) الجمعة/11،
أي : التجارة ؛ لأنها كانت مقصود القوم ، فأعاد الضمير عليها ، ولم يقل : ( إليهما
) ، والمعنى متقارب .
وقال الشاعر : رماني بأمر كنت منه ووالدي * بريئا ومن فوق الطوي رماني .
وفي التنزيل : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) التوبة/62، فحذف إيجازا واختصارا "
انتهى.
" الجامع لأحكام القرآن " (1/325)
وقال الماوردي رحمه الله :
" فإن قيل : فِلمَ قال : ( فَتَابَ عَلَيْهِ ) ، ولم يقُلْ : ( فتابَ علَيْهِما )
والتوبة قد توجهت إليهما ؟
قيل : عنه جوابان :
أحدهما : لما ذكر آدم وحده بقوله : ( فَتَلَّقى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ) ،
ذكر بعده قبول توبته ، ولم يذكر توبة حوَّاء - وإن كانت مقبولة التوبة - لأنه لم
يتقدم ذكرها .
والثاني : أن الاثنين إذا كان معنى فعلهما واحداً ، جاز أن يذكرَ أحدهما ، ويكونَ
المعنى لهما ، كما قال تعالى : ( وَإذَا رَأَوا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا
إِلَيْهَا ) الجمعة/11، وكما قال عز وجل : ( وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ ) التوبة/62. " انتهى من " النكت والعيون " (1/110)
والله أعلم .