الحمد لله.
ثانيا :
هذه الحقيقة التي ذكرت في السؤال : "أنه لا أبدية إلا لله " ؛ هي قول لا أصل له في
الدين ، بل هو قول باطل بإجماع المسلمين على أن أهل الجنة يخلدون فيها أبد الآبدين
، خلودا بلا موت . وهكذا أهل النار ، الذين هم أهلها من الكفار .
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن من المخلوقات ما لا يعدم ، وهو الجنة والنار
والعرش وغير ذلك ، ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكتاب المبتدعين
، وهو قول باطل " انتهى من "مختصر الفتاوي المصرية" (1 /169) .
ثالثا :
ينبغي أن ننتبه هنا إلى أمرين :
الأول : أن أبدية المخلوقات التي كتب الله لها البقاء في الدار الآخرة ، قد سبقها
فناء وعدم ، وأما الله جل جلاله : فهو أول بلا ابتداء ، وآخر بلا انتهاء ، ولا فناء
، جل شانه .
الثاني : أن أبدية المخلوقين هي عطاء وهبة من الله ؛ فكما أنه وجود المخلوق إنما هو بخلق الله له ، وليس وجودا من عنده ، أو عند غيره من المخلوقين ؛ فكذلك بقاء الخلق في الدار الآخرة ، إنما هو عطاء الله لهم ، وخلقه ، وتقديره .
وهذا يدلنا على أن بقاء
الخلق وأبديته في الدار الآخرة ، لا يشبه بقاء الخالق سبحانه ؛ وأن ما اختص الله به
سبحانه في ذلك ليس هو مجرد البقاء الأبدي الذي لا يزول ؛ بل اختص الخالق سبحانه من
ذلك بما يليق به من البقاء الكامل للخالق ، وللمخلوق ما يليق به من البقاء المخلوق
من الله .
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ
وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ " انتهى من
"مجموع الفتاوى" (13 /379) .
رابعا :
اختص الله سبحانه - في بقائه الأبدي - بصفة لا يشركه فيها غيره ، وهي صفة الآخرية ،
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ
شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ
فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ ) رواه
مسلم (2713)
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ قَبْلَهُ ، وَلَا بَعْدَهُ ، وَلَا فَوْقَهُ ، وَلَا
دُونَهُ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (16 /359)
وقال أيضا :
" هو الأول الذي ليس قبله شيء ، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء ، فهو القديم الأزلي
الدائم الباقي بلا زوال " انتهى من " درء تعارض العقل والنقل " (1 /69) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" فأَولية الله عَزَّ وجَلَّ سابقة على أَولية كل ما سواه ، وآخريته ثابتة بعد
آخرية كل ما سواه ، فأَوليته سبقه لكل شيء ، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء ، وظاهريته
سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء ، ومعنى الظهور يقتضى العلو، وظاهر الشيء هو ما علا
منه وأحاط بباطنه ، وبطونه سبحانه إِحاطته بكل شيء ، بحيث يكون أقرب إليه من نفسه ،
وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه ، هذا لون ، وهذا لون .
فمدار هذه الأَسماءِ الأَربعة على الإحاطة ، وهى إحاطتان : زمانية ، ومكانيه ؛
فأحاطت أَوليته وآخريته بالقبل والبعد ، فكل سابق انتهى إِلى أَوليته ، وكل آخر
انتهى إِلى آخريته ؛ فأَحاطت أَوليته وآخريته بالأَوائل والأَواخر، وأَحاطت ظاهريته
وباطنيته بكل ظاهر وباطن ، فما من ظاهر إلا والله فوقه ، وما من باطن إِلا والله
دونه ، وما من أول إلا والله قبله ، وما من آخر إلا والله بعده ، فالأَول قِدَمه ،
والآخر دوامه وبقاؤه ، والظاهر علوه وعظمته ، والباطن قربه ودنوه .
فسبق كل شيء بأَوليته ، وبقى بعد كل شيء بآخريته ، وعلا على كل شيء بظهوره ، ودنا
من كل شيء ببطونه ، فلا تواري منه سماء سماء ، ولا أرض أرضا ، ولا يحجب عنه ظاهر
باطن ، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة ، والبعيد منه قريب ، والسر عنده
علانية، فهذه الأَسماءُ الأَربعة تشتمل على أَركان التوحيد ، فهو الأَول فى آخريته
والآخر فى أَوليته ، والظاهر في بطونه ، والباطن في ظهوره ، لم يزل أَولاً وآخراً ،
وظاهراً وباطناً " انتهى من "طريق الهجرتين" (31) .
والله أعلم .