الحمد لله.
قال الشوكاني رحمه الله في تفسيره لآية المائدة " قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) أي: لا تسألوا عن أشياء لا حاجة لكم بالسؤال عنها , ولا هي مما يعنيكم في أمر دينكم , فقوله: ( إن تبد لكم تسؤكم ) في محل جرٍّ صفة لأشياء , أي لا تسألوا عن أشياء متصفة بهذه الصفة ؛ من كونها إذا بدت لكم ؛ أي : ظهرت وكلفتم بها : ساءتكم ، نهاهم الله عن كثرة مساءلتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن السؤال عما لا يعني ولا تدعو إليه حاجة ، قد يكون سببا لإيجابه على السائل وعلى غيره , قوله: ( وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ) هذه الجملة من جملة صفة أشياء ، والمعنى: لا تسألوا عن أشياء ، إن تسألوا عنها حين ينزل القرآن ، وذلك مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم ونزول الوحي عليه : تبد لكم , أي : تظهر لكم ، بما يجيب عليكم به النبي صلى الله عليه وسلم ، أو ينزل به الوحي , فيكون ذلك سببا للتكاليف الشاقة , وإيجاب ما لم يكن واجبا ، وتحريم ما لم يكن محرما ، بخلاف السؤال عنها بعد انقطاع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا إيجاب ولا تحريم يتسبب عن السؤال " انتهى من " فتح القدير " للشوكاني (2 / 92).
فعلم من هذا جملة من الأمور:
أولا :
أن النهي في الآية خاص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو وقت نزول الوحي , دون
ما بعده من الأزمنة ، فلا يكون هذا مانعا من طلب العلم الشرعي ، وتعلم الإنسان ما
ينفعه ، أو يحتاج إليه في أمر معاشه ومعاده .
قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - : " من المؤسف حقا أن بعض الناس يقول لا تسأل
فتخبر عن شيء يكون فيه مشقة عليك ، ثم يتأولون الآية الكريمة على غير وجهها وهي
قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ
تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) فإن النهي عن ذلك إنما كان وقت نزول الوحي الذي يمكن أن
تتجدد الأحكام فيه أو تتغير ، أما بعد أن توفي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله
وسلم فالواجب أن يسأل الإنسان عن كل ما يحتاجه في أمور دينه " انتهى من " فتاوى نور
على الدرب " لابن عثيمين (24 /223) .
ثانيا :
أن الأشياء التي نهوا عن السؤال عنها هي :
1- الأشياء التي لا يترتب عليها عمل وهي مما لا ينفع في أمر الدين .
2- الأشياء التي عنها الشرع ، وسكت عن ذكرها ، رحمة بالناس ، غير نسيان ؛ فربما أدى
التنقير إلى تحريمها ، والإشقاق على الناس بها ؛ روى البخاري (6745) ومسلم (4349)
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا
: مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَحُرِّمَ
عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ ).
3- الأشياء التي خفيت عن السائلين ، ولو بدت لهم ساءتهم ، كما مر معنا في حديث عبد
الله بن حذافة .
ثالثا :
أن الأشياء التي يترتب عليها بيان حكم شرعي , قد أمر الله سبحانه بالسؤال عنها في
قوله تعالى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )النحل
/ 43.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير آية المائدة " ينهى عباده المؤمنين عن سؤال
الأشياء التي إذا بينت لهم ساءتهم وأحزنتهم ، وذلك كسؤال بعض المسلمين لرسول الله
صلى الله عليه وسلم عن آبائهم ، وعن حالهم في الجنة أو النار، فهذا ربما أنه لو بين
للسائل : لم يكن له فيه خير ، وكسؤالهم للأمور غير الواقعة , وكالسؤال الذي يترتب
عليه تشديدات في الشرع ربما أحرجت الأمة ، وكالسؤال عما لا يعني، فهذه الأسئلة وما
أشبهها هي المنهي عنها ، وأما السؤال الذي لا يترتب عليه شيء من ذلك : فهذا مأمور
به ، كما قال تعالى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
) " انتهى من تفسير السعدي (1 / 245).
ويراجع للفائدة الأمور التي يكره السؤال عنها إما تحريما أو تنزيها في الفتوى رقم : (131675).
والله أعلم .