الحمد لله.
الثاني : القراءة عن ظهر قلب ( من المحفوظ في الذاكرة ) ، بمعنى التلاوة المجردة عن النظر في شيء مكتوب ، ومن ذلك قول الله عز وجل : ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ . فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) القيامة/17-18 ، ومعلوم أن جبريل عليه السلام كان يقرأ القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم من غير كتاب . ومنه أيضا قول الله عز وجل : ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) النحل/98 ، وقوله سبحانه : ( وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ) الإسراء/45 . وكذلك قوله تعالى : ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ) الإسراء/106. وهي كلها تصف تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم آيات الكتاب الكريم بأنها ( قراءة ) ، رغم أنه عليه الصلاة والسلام كان أميا ، لا يقرأ من الكتب ، وإنما يقرأ من محفوظه الذي جمعه الله له في قلبه .
وهكذا ينبغي أن نفهم قول الله عز وجل : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) العلق/1-3 . على أنه أمر بالقراءة من المحفوظ ، وتلاوة ما سيلقيه عليه جبريل عليه السلام . فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ( ما أنا بقارئ ) أي لا أعرف القراءة من الكتاب ، فكيف لي أن أقرأ شيئا لا أحفظه ولا أعرفه .
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله :
" القراءة لغة الإظهار والإبراز ، كما قيل في وصف الناقة : لم تقرأ جنينا ، أي لم
تُنتِج . وتقدم للشيخ بيان هذا المعنى لغة ، وتوجيه الأمر بالقراءة إلى نبي أمي لا
تعارض فيه ; لأن القراءة تكون من مكتوب وتكون من متلو ، وهنا من متلو ، يتلوه عليه
جبريل عليه السلام ، وهذا إبراز للمعجزة أكثر ; لأن الأمي بالأمس صار معلَّمًا
اليوم . وقد أشار السياق إلى نوعي القراءة هذين ، حيث جمع القراءة مع التعليم
بالقلم " انتهى من " تتمة أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن " (9/13) .
ويقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله :
" قوله تعالى : ( اقرأ ) أمر بالقراءة . والقراءة نطق بكلام معين مكتوب ، أو محفوظ
على ظهر قلب .
والأمر بالقراءة مستعمل في حقيقته من الطلب لتحصيل فعل في الحال أو الاستقبال ،
فالمطلوب بقوله : ( اقرأ ) أن يفعل القراءة في الحال أو المستقبل القريب من الحال ،
أي أن يقول ما سيُملَى عليه ، والقرينة على أنه أمر بقراءة في المستقبل القريب أنه
لم يتقدم إملاء كلام عليه محفوظ فتطلب منه قراءته ، ولا سلمت إليه صحيفة فتطلب منه
قراءتها ، فهو كما يقول المعلِّمُ للتلميذ : اكتب ، فيتأهب لكتابة ما سيمليه عليه .
وفي حديث الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قولها فيه : ( حتى جاءه الحق وهو في غار
حراء فجاءه الملك فقال : اقرأ . قال : فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني حتى بلغ
مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثانية حتى
بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة
حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى ما لم يعلم )
فهذا الحديث روته عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولها ( قال : فقلت : ما
أنا بقارئ ) وجميع ما ذكرته فيه مما روته عنه لا محالة ، وقد قالت فيه : ( فرجع بها
رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده )، أي : فرجع بالآيات التي أمليت عليه .
أي : رجع متلبسا بها ، أي : بوعيها . وهو يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
تلقى ما أوحي إليه ، وقرأه حينئذ . ويزيد ذلك إيضاحا قولها في الحديث : ( فانطلقت
به خديجة إلى ورقة بن نوفل فقالت له خديجة : يا ابن عم ! اسمع من ابن أخيك )، أي :
اسمع القول الذي أوحي إليه . وهذا ينبىء بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ما
قيل له بعد الغطة الثالثة : ( اقرأ باسم ربك ) الآيات الخمس قد قرأها ساعتئذ كما
أمره الله ، ورجع من غار حراء إلى بيته يقرؤها .
وعلى هذا الوجه يكون قول الملك له في المرات الثلاث : ( اقرأ ) إعادة للفظ المنزل
من الله ، إعادة تكرير للاستئناس بالقراءة التي لم يتعلمها من قبل .
ولم يذكر لفعل ( اقرأ ) مفعول ، إما لأنه نزل منزلة اللازم ، وأن المقصود : أوجِد
القراءة ، وإما لظهور المقروء من المقام ، وتقديره : اقرأ ما سنلقيه إليك من القرآن
" انتهى من " التحرير والتنوير (30/435) .
والخلاصة : أن الأمر بالقراءة في هذه الآية ( اقرأ باسم ربك ) ليس من صحيفة مكتوبة ، بل من محفوظ خاص تعلمه ، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أمي ، لم يحفظ شيئا من كتاب قرأه قبل ذلك ، فألقى عليه جبريل أوائل سورة العلق ليقرأها ؛ أي : ليحفظها ويتلوها بعد ذلك .
والله أعلم .