عقيدة وحدة الوجود عند الديوبندية
أنتمي للمذهب الديوبندي الحنفي ، ويعتقد القادة الدينيون الديوبنديون عقيدة وحدة الوجود،. لذا فأرجو منكم إخباري ، هل هذا المعتقد من القرآن والسنة ، أم أنه كفر ؟
الجواب
الحمد لله.
أولا :
سبق في موقعنا الحديث المفصل عن " الديوبندية "، وبراءة الإمام أبي حنيفة من هذا
الاعتقاد ، مع ذكر المراجع والنقول التي تشرح فكرة هذه الفرقة ومعتقدها وأهدافها .
يمكن مراجعة ذلك في الفتوى رقم : (22473)
، ورقم : (150090) .
ثانيا :
من يطالع في الأبحاث المختصة التي درست " الديوبنية " ومراحلها وعقائد أئمتها يدرك
أن ثمة تناقضا في الطرح بين أشهر قادتها ، أو على الأقل ثمة اختلاف في بعض
المعتقدات ، التي سببها عدم عناية هذه الفرقة بتنقية تنظيرها من كل ما يقدح في
سلامة المعتقد ، وصفاء منهاج البحث والتفكير ، إلا أن القاسم المشترك بينها
اشتمالها على الكثير من الأفكار الفاسدة ، والمعتقدات الباطلة التي تناقض الكتاب
والسنة وإجماع العلماء .
ومن ذلك القول بـ " وحدة الوجود " ، وهو " اعتقاد كون الوجود هو عين الله عز وجل "،
وأهل هذا القول يسمون أيضا بـ "الاتحادية "، يؤمنون أن الله عز وجل متحد بالمخلوقات
جميعها ، بحيث أصبح الوجود واحدا وليس وجودا متعددا ، ويسمون من يؤمن بهذه العقيدة
" موحدا "، وهو في الحقيقة أبعد ما يكون عن التوحيد ، وقد سبق تفصيل تعريف هذه
العقيدة وبيان بطلانها في الفتوى رقم : (147639)
، ورقم : (163948) .
وقد قال بهذه العقيدة جماعة من كبار أئمة الديوبندية بالوضوح الذي لا يمكن لأي باحث
منصف إنكاره أو الاعتذار عنه ، ونحن ننقل هنا شيئا من تلك الأقوال الصريحة ، ونترك
الأقوال المحتملة كي لا نطيل على القارئ :
يقول شيخ مشايخ الديوبندية الحاج إمداد الله المهاجر المكي (ت1317هـ) : " القول
بوحدة الوجود حق وصواب " . انتهى من " شمائم إمدادية " للشيخ إمداد الله (ص/32) .
بل قال أيضا : " التفريق بين العبد والمعبود هو الشرك عينه " (ص/37) وتوسع في ذكر
الوساوس الباطلة التي لبس بها الشيطان عليه في هذه العقيدة ، ولم يكتف حتى أضاف
لذلك كله قوله الشنيع : " العبد قبل وجوده كان هو الرب باطناً ، والرب هو العبد
ظاهراً " .
ينظر " شمائم إمدادية " (ص/38) .
وقال الشيخ فضل حق الخير آبادي : " لو كلفت الرسل بالدعوة إلى وحدة الوجود ، لبطلت
الحكمة التي من أجلها أرسلت الرسل ، فأمروا أن يكلموا الناس على قدر عقولهم " .
ينظر كتابه " الروض المجود " (ص/44) .
ويقول محمد أنور شاه الكشميري (ت1352هـ) الملقب بإمام العصر – في شرح أحد الأحاديث:
" في الحديث لمعة إلى وحدة الوجود ، وكان مشائخنا مولعين بتلك المسألة إلى زمن
الشاه عبد العزيز ، أما أنا فلست بمتشدد فيها " ينظر " فيض الباري " (4/428) .
وقال صوفي إقبال – يمدح الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي -: " أوقفنا على سر الوحدة (
وحدة الوجود )، حيث بين لنا أن العشق والمعشوق والعاشق كلها شيء واحد " .
انتهى من كتاب " محبت " (ص/70) .
ويقول مؤلف كتاب " تعليم الإسلام ": " هناك مسألة في التصوف دقيقة جدا ، وهي مسألة
وحدة الوجود ، وهي تعني أن الموجود كله الله ، ووجود ما سواه وهمٌ وخيال ... فعلم
من ذلك أن قولهم لا موجود إلا الله . كلام صحيح " انظر كتاب " تعليم الإسلام "
(ص/552) .
وهذه النقول استفدناها من كتاب " الديوبندية " (ص29-42) ، دار الصميعي، (1998م)،
لمؤلفه الشيخ أبي أسامة ، سيد طالب عبد الرحمن ، مدير المعهد العالي للدراسات
الإسلامية في روالبندي ، باكستان . والمراجع التي نقل منها ليست باللغة العربية ،
لذلك لم نتمكن من الرجوع إليها مباشرة ، واعتمدنا فيها على كتابه الذي يعد من أهم
المصادر في هذا الباب ، نظرا لندرة المؤلفات العربية لأئمة الديوبندية .
ثالثا :
أما بطلان هذه العقيدة " وحدة الوجود " فأمر متفق عليه بين العلماء ، لم يختلفوا في
أنها عقيدة كفر وشرك ، ودعوا إلى محاربتها ومكافحتها ؛ لما تشتمل عليه من إلغاء
للتوحيد الحقيقي الذي هو لب دين الإسلام وخلاصته .
والأدلة على بطلانها في الكتاب والسنة والعقل لا تعد ولا تحصى ، فمن ذلك قول الله
عز وجل : ( وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ
مُبِينٌ ) الزخرف/15. وقوله سبحانه : ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ
نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. سُبْحَانَ اللَّهِ
عَمَّا يَصِفُونَ ) الصافات/159 .
فانظر كيف حكم الله عز وجل بكفر من جعل له من عباده جزءا ، ونسب إليه شيئا من خلقه
، فكيف يكون الحكم إذن فيمن ساوى بين الخالق والمخلوق في الوجود !
كيف لمسلم أن يدعي وحدة الوجود وهو يؤمن أن الله خالق كل شيء ، فكيف يجمع بين
الخالق القديم الأزلي والمخلوق المحدث ، والله عز وجل يقول : ( وَقَدْ خَلَقْتُكَ
مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ) مريم/9 ، ويقول سبحانه : ( أَوَلا يَذْكُرُ
الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ) مريم/67.
ومن يقرأ القرآن يجد أن من البدهيات المسلمات في جميع أنساق القرآن الكريم وخطاباته
أن المخلوق غير الخالق ؛ قال تعالى : ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا
يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) النحل/73 . فمن خالف هذا
فقد ناقض قطعيات القرآن والدين .
ثم إن ما يلزم من دعوى وحدة الوجود من لوازم شنيعة كافية للكفر بهذه العقيدة
الباطلة ، فمن آمن بها يؤول به الحال إلى استحلال الفواحش ، والتسوية بين الإيمان
والكفر ، بدعوى أن العقائد كلها تؤول إلى الإيمان بوجود واحد على حد زعمهم ، وتؤدي
أيضا إلى أن ينسب اللهَ جل جلاله إلى أخس الخلق وأقذر الموجودات من النجاسات
والدواب وغيرها ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
ونحن ننقل هنا بعض هذه اللوازم الباطلة التي وجدناها في كتب " الديوبندية " أنفسهم
، ولو رحنا نسوق غيرها من كتب طوائف أخرى قديمة وحديثة لطال المقام كثيرا .
قال حكيم أمة الديوبندية أشرف علي التهانوي (ت1362هـ) عن الشيخ إمداد الله - الشيخ
الأول في الديوبندية -: " قيل لموحد [من يعتقد بوحدة الوجود عندهم ]: إذا كان
الحلوى والخرء شيئاً واحداً ، فكُلِ الحلوى والخرء جمعاً ! فجعل هذا الموحد شكله
شكل الخنزير . فأكل الخرء ، ثم حول نفسه من صورة الخنزير إلى صورة الآدمي ، فأكل
الحلوى .
وقد علق على هذه الأسطورة الإلحادية الوثنية الشيخ أشرف علي الملقب بحكيم الأمة
فقال: إن هذا المعترض على هذا الموحد كان غبياً ؛ ولذلك تكلف هذا الموحد هذا التصرف
، وإلا فالجواب ظاهر ، وهو أن الحلوى والخرء متحدان في الحقيقة ، لا في الأحكام
والآثار " ينظر كتاب " إمداد المشتاق " (ص/101) لأشرف علي التهانوي . نقلنا ذلك من
كتاب " جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية " لشمس الدين السلفي الأفغاني
(2/790-791) .
وقال رشيد أحمد كنكوهي : " إن عددا كبيرا من بغايا مدينة (سهارنفور) كن من مريدي
الشيخ ضامن علي الجلال آبادي – من أكابر الديوبندية – فنزل يوما عند واحدة منهن ،
فاجتمعن في بيتها كلهن ، غير واحدة منهن ، فسأل الشيخ عن سبب غيابها ، فقلن بأننا
قد حاولنا إقناعها للحضور لزيارتكم الكريمة ، ولكنها اعتذرت وقالت : أنا غريقة في
المعاصي ، مسودة الوجه ، بأي وجه أستقبل الشيخ . فألح الشيخ عليهن بإحضارها عنده ،
فلما جئن بها وحضرت بين يديه ... قال الشيخ : لم تستحين ؟ هل الفاعل والمفعول به
إلا هو ؟ فما أن سمعت البغي مقال الشيخ حتى اشتعلت غضبا ، وقالت : لا حول ولا قوة
إلا بالله ، أنا عاصية مسودة الوجه ، ولكنني أتبرأ من مثل هذا الشيخ كل البراءة ُ،
وتولت مدبرة والشيخ جالس ناكس الرأس ندما وحياء " انظر تمام القصة في " تذكرة
الرشيد " لمؤلفه الشيخ محمد عاشق إلهي الميرتي (2/242). نقلناه عن كتاب "
الديوبندية " للشيخ أبي أسامة (ص/40).
نسأل الله السلامة والعافية ، ونرجو الهداية لكل من ضل عن الهدى .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" [القول أن] وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى ، هذا منتهي الإلحاد ، وهو مما
يعلم بالحس والعقل والشرع أنه في غاية الفساد ، ولا مخلص من هذا إلا بإثبات الصفات
، مع نفي مماثلة المخلوقات ، وهو دين الذين آمنوا وعملوا الصالحات " .
انتهى من " درء تعارض العقل والنقل " (1/ 283) .
ويقول أيضا رحمه الله :
" أما " الاتحاد المطلق " الذي هو قول أهل وحدة الوجود ، الذين يزعمون أن وجود
المخلوق هو عين وجود الخالق ، فهذا تعطيل للصانع وجحود له ، وهو جامع لكل شرك " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " (10/ 59) .
ومما قاله أيضا رحمه الله :
" وحدة الوجود الذين يقولون : عين وجود الخالق هو عين وجود المخلوق . كما يقوله ابن
عربي ؛ وابن سبعين ؛ والقونوي ؛ والتلمساني ؛ وابن الفارض ؛ ونحوهم ، وهذا القول
مما يعلم بالاضطرار شرعا وعقلا أنه باطل " انتهى من " مجموع الفتاوى " (18/ 222).
وحين بين شيخ الإسلام رحمه الله لوازم هذه العقيدة قال :
" حقيقة مذهبه [يعني ابن عربي] أنّ وجود الكائنات -حتى وجود الكلاب والخنازير،
والأنتان والعَذِرات والكفار والشياطين- هي عين وجود الحق ، وأنَّ أعيان الكائنات
ثابتة في القِدم ، لم يخلقها الله ولم يُبدعها ، بل ظهر وجوده فيها ، ولا يمكن أن
يظهر وجوده إلا فيها ، فهي غذاؤه بالأحكام ، وهو غذاؤها بالوجود ، وهو يعبدها وهي
تعبده .
وأن عين الخالق هو عين المخلوق ، وعين الحق المُنزَّه هو عين الخلق المُشبَّه ، وأن
الناكح هو المنكوح ، والشاتم هو المشتوم ، وأن عُبَّاد الأصنام ما عبدوا إلا الله ،
ولا يمكن أن يُعبد إلا الله .
وأن قوله : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) الإسراء/ 23 ،
أي : حَكَم وقدَّر ، وما حكم الله بشيء إلا وقع ، فما عُبِد غير الله في كلّ معبود
. وأن عُبَّاد الأصنام وقع تقصيرهم من حيث عبدوا بعض المجالي الإلهية ، ولو عبدوا
كلَّ شيءٍ لكانوا عارفين كاملين ، وأن العارف الكامل يعلم ما عَبَد وفي أيِّ صورة
ظهر حتى عُبِد ، وأن نوحًا عليه السلام أثنى على قومه بلسان الذمّ ، وأن أعيان
المخلوقات هي نفس الخالق ، وأن موسى ما عَتَبَ على هارون لمَّا ذمَّ قومه على عبادة
العجل إلا لضيق هارون حيثُ لم يعرف أنهم إنما عبدوا الله !
وأن السحَرَة عرفوا صدق قول فرعون : ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) النازعات/ 24 ،
و ( مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) القصص/ 38 .
إلى أنواعٍ من هذه المقالات التي لا يعتقدها المسلمون ولا اليهود ولا النصارى ولا
الصابئون ولا المشركون ، وإنما هي قول المُعطِّلة الذين ينكرون وجود الصانع ،
وينكرون أن الله رب العالمين، وأنه خالق الخلق ، وهو حقيقة قول فرعون والقرامطة
الباطنية الجاحدين لربّ العالمين " .
انتهى من " جامع المسائل " المجموعة السابعة (1/ 247-248) .
والله أعلم .