الحمد لله.
وروى البخاري (4950) ، ومسلم
(1797) عن جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ( اشْتَكَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ -
أَوْ ثَلاَثًا - ، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي
لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ ، لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ
لَيْلَتَيْنِ - أَوْ ثَلاَثَةٍ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( وَالضُّحَى
* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .
وهذه هي المرة الثانية .
قال الحافظ ابن حجر رحمه
الله :
" الْفَتْرَة الْمَذْكُورَة فِي سَبَب نُزُول (وَالضُّحَى) : غَيْر الْفَتْرَة
الْمَذْكُورَة فِي اِبْتِدَاء الْوَحْي , فَإِنَّ تِلْكَ دَامَتْ أَيَّامًا ،
وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا " .
انتهى من "فتح الباري" (8/710) .
وقال ابن عاشور رحمه الله :
" وَاحْتِبَاسُ الْوَحْيِ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَ
مَرَّتَيْنِ:
أُولَاهُمَا: قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ أَوِ الْمُزَّمِّلِ ، وَتِلْكَ
الْفَتْرَةُ هِيَ الَّتِي خَشِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ يَكُونَ قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ الْوَحْيُ ، وَهِيَ الَّتِي رَأَى عَقِبَهَا
جِبْرِيلَ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ .
وَثَانِيَتُهُمَا: فَتْرَةٌ بَعْدَ نُزُولِ نَحْوٍ مِنْ ثَمَانِ سُوَرٍ، أَيِ
السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ بَعْدَ الْفَتْرَةِ الْأُولَى فَتَكُونُ بَعْدَ
تَجَمُّعِ عَشْرِ سُوَرٍ " انتهى من "التحرير والتنوير" (30/ 396) .
ثانيا :
اختلف العلماء في مدة فترة الوحي الأولى ، فقيل ثلاث سنين ، وقيل قريبا من سنتين ،
أو سنتين ونصف ، وقيل اثنا عشر يوما ، وقيل خمسة عشر يوما ، وقيل أربعون يوما ،
وقيل غير ذلك .
قال الحافظ رحمه الله :
" وَقَعَ فِي تَارِيخِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ مُدَّةَ
فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَانَت ثَلَاث سِنِين ، وَبِه جزم ابن إِسْحَاقَ " انتهى من
"فتح الباري" (1/ 27) .
وقال ابن كثير :
" قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ مُدَّةُ الْفَتْرَةِ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ
سَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ " .
انتهى من "البداية والنهاية" (4/ 42) .
وقال الرازي رحمه الله :
" وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مُدَّةِ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ ، فَقَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ : خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ
وَمُقَاتِلٌ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا " انتهى من "تفسير الرازي" (31/ 192) .
وقال ابن عاشور :
" وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مُدَّةَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ فِي الْفَتْرَةِ الْأُولَى
كَانَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا " .
انتهى من "التحرير والتنوير" (30/ 396) .
أما فترة الوحي الثانية
فكانت ليلتين أو ثلاثا ، كما تقدم في حديث جندب بن سفيان رضي الله عنه .
وقال ابن كثير رحمه الله :
" نَزَلَتْ سُورَةُ وَالضُّحَى بَعْدَ فَتْرَةٍ أُخْرَى ، كَانَتْ لَيَالِيَ
يَسِيرَةً ، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا " انتهى من
"البداية والنهاية" (4/ 41) .
ثالثا :
كانت الحكمة من فتور الوحي مدة : أن يذهب الروع الذي كان قد وجده رسول الله صلى
الله عليه وسلم في نفسه لما نزل عليه جبريل عليه السلام أول مرة ، وليحصل له التشوف
إلى عودة الوحي والاشتياق إليه ، ولتنزل السلوى على رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الله تعالى ، فيزداد إيمانا وتثبيتا ، وليبتلي الله الناس فيثبت المؤمنين ويضل
الكافرين .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" وَفُتُورُ الْوَحْيِ : عِبَارَةٌ عَنْ تَأَخُّرِهِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ ،
وَكَانَ ذَلِكَ لِيَذْهَبَ مَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَهُ
مِنَ الرَّوْعِ ، وَلِيَحْصُلَ لَهُ التَّشَوُّفُ إِلَى الْعَوْدِ " .
انتهى من "فتح الباري" (1/ 27) .
وقال مُعْتَمِر بْن سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ : " وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَقَالُوا :
لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَتَتَابَعَ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَلَاهُ ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ (وَالضُّحَى) وَ (أَلَمْ نَشْرَحْ) بِكَمَالِهِمَا " .
انتهى من "فتح الباري" (8/ 710) .
رابعا :
لا يعرف على وجه التحديد ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم خلال فترة انقطاع الوحي
، إلا أن المقطوع به أنه أحزنه ذلك ، وأنه تشوف إلى عودته ، ورغب في الأنس به بعد
الذي أصابه من الوحشة والفزع أول الأمر .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ رحمه الله :
" ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فتْرةً مِنْ ذَلِكَ ، حَتَّى شقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، فَأَحْزَنَهُ ، فَجَاءَهُ
جبريلُ بِسُورَةِ الضُّحَى ، يُقسم لَهُ رُّبه، وَهُوَ الَّذِي أَكْرَمَهُ بِمَا
أَكْرَمَهُ بِهِ ، مَا ودَّعه وَمَا قَلاَه " انتهى من "سيرة ابن هشام" (1/ 225) .
وما ذُكر من أنه صلى الله عليه وسلم رغب مرارا في الانتحار والتردي من رءوس شواهق الجبال بسبب ما أصابه من الحزن لذلك : فباطل ؛ كما تقدم بيانه وتقريره في إجابة السؤال رقم : (152611) .
والله أعلم .