البدانة ليست مذمومة في الشريعة بإطلاق
أخبرني اليوم أحد أصدقائي بأنه لا ينبغي للمسلم أن يكون بديناً لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك. فهل هناك في شريعتنا ما يضع قيداً لمثل هذا الأمر؟
الجواب
الحمد لله.
البدانة تكون مذمومة في الشرع إذا كان سببها كثرة الأكل أو الخلود إلى الراحة
والكسل وعدم العمل .
أما البدانة التي تكون بسبب تقدم السن ، أو تكون بطبيعة الجسم ، كما لو كان الشخص
بدينا وراثةً مثلا ؛ فهذه البدانة ليست مذمومة ، ولا يلام عليها الإنسان .
وقد روى البخاري (2457) ومسلم (4603) عن عِمْرَانَ بْن حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (إِنَّ خَيْرَكُمْ
قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ
الَّذِينَ يَلُونَهُمْ . قَالَ عِمْرَانُ : فَلَا أَدْرِي أَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً .
ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ ، وَيَخُونُونَ
وَلَا يُؤْتَمَنُونَ ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ
السِّمَنُ) .
قال النووي رحمه الله :
" قال جمهور العلماء في مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ : الْمُرَادُ بِالسِّمَنِ هُنَا
كَثْرَةُ اللحم، ومعناه أنه يكثر ذلك فيهم، قَالُوا: وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ مَنْ
يَسْتَكْسِبُهُ، وَأَمَّا مَنْ هُوَ فِيهِ خِلْقَةً فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا،
وَالْمُتَكَسِّبُ لَهُ هُوَ الْمُتَوَسِّعُ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ
زَائِدًا عَلَى الْمُعْتَادِ " انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" (وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) : أَيْ يُحِبُّونَ التَّوَسُّعَ فِي الْمَآكِلِ
وَالْمَشَارِبِ، وَهِيَ أَسْبَابُ السِّمَنِ " انتهى .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
"قوله : (ويظهر فيهم السمن) . "السمن" : كثرة الشحم واللحم ، وهذا الحديث مشكل ،
لأن ظهور السمن ليس باختيار الإنسان ، فكيف يكون صفة ذم ؟!
قال أهل العلم : المراد أن هؤلاء يعتنون بأسباب السمن من المطاعم والمشارب والترف ،
فيكون همهم إصلاح أبدانهم وتسمينها .
أما السمن الذي لا اختيار للإنسان فيه ، فلا يذم عليه ، كما لا يذم الإنسان على
كونه طويلاً أو قصيراً أو أسود أو أبيض ، لكن يذم على شيء يكون هو السبب فيه" انتهى
من "القول المفيد شرح كتاب التوحيد" (2/350) .
ويدل لهذا المعنى أن الحديث ورد في سنن الترمذي (2147) بلفظ : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِهِمْ قَوْمٌ يَتَسَمَّنُونَ وَيُحِبُّونَ السِّمَنَ) وصححه الألباني في صحيح
الترمذي .
وروى ابن ماجة (962) عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي قَدْ بَدنْتُ، فَإِذَا رَكَعْتُ فَارْكَعُوا، وَإِذَا
رَفَعْتُ فَارْفَعُوا، وَإِذَا سَجَدْتُ فَاسْجُدُوا، وَلَا أُلْفِيَنَّ رَجُلًا
يَسْبِقُنِي إِلَى الرُّكُوعِ، وَلَا إِلَى السُّجُودِ) وصححه الألباني في "صحيح
ابن ماجة" .
قال الخطابي رحمه الله في "معالم السنن" (1/ 176):
" قوله : (إني قد بدنت) يروى على وجهين : أحدهما : بدّنت بتشديد الدال، ومعناه كبر
السن . والآخر: بدُنت مضمومة الدال غير مشدودة، ومعناه: زيادة الجسم واحتمال اللحم
" انتهى .
وكلا المعنيين قد حصل للرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد روى أبو داود (942) عن أُمّ
قَيْسٍ بِنْت مِحْصَنٍ، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمَّا أَسَنَّ وَحَمَلَ اللَّحْمَ، اتَّخَذَ عَمُودًا فِي مُصَلَّاهُ يَعْتَمِدُ
عَلَيْهِ) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" . ومثل هذا أيضا ثبت في صحيح مسلم
(1233) عن عائشة رضي الله عنه أنها كانت تصف صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم بالليل
فقالت : (فلمَّا أَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخَذَه
اللَّحْمُ ... إلخ الحديث) .
فهذه البدانة التي حصلت للرسول صلى الله عليه وسلم كانت شيئا يسيرا ولم تكن بدانة
مفرطة ، وكانت بحكم تقدم سنه صلى الله عليه وسلم .
والله تعالى أعلم .