الأدلة الشرعية على أن الجاهل يعذر في مسائل الشرك والكفر

21-06-2015

السؤال 228033

هل يعذر الجاهل في مسائل الكفر والشرك ؟ أعلم أنكم قد ذكرتم في الموقع أنه معذور ، ولكن أريد ذكر الأدلة التي تدل على عذر الجاهل في المسائل العقدية والشرك بشيء من التفصيل .

الجواب

الحمد لله.

لا يخلو الجاهل الذي يفعل الكفر والشرك من أحد أمرين :
الأول :
أن يكون غير مسلم ، سواء كان على دين آخر ، أو لم يكن له دين.
فمن كان حاله كذلك فهو كافر , سواء كان عالماً أو جاهلاً أو متأولاً , ولا يُعطَى أحكام الإسلام في الدنيا , ويعامل بأحكام الكفار؛ لأنه لم يدخل في دين الإسلام أصلاً ، فكيف نحكم بإسلامه ، وهو لم ينتسب إلى الإسلام ؟!
أما في الآخرة : فإن كان جاهلاً حقاً ، ولم تبلغه دعوة الإسلام أصلا ، أو بلغته بشكل مشوه ومحرَّف ، لا تقوم به الحجة على مثله : ففي مصيره يوم القيامة خلاف مطوَّل .
وأرجح الأقوال فيه : أنه يمتحن يوم القيامة ، فمن أطاع دخل الجنة ، ومن عصى دخل النار .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي أَنَّ مِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الرِّسَالَةُ فِي الدُّنْيَا ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ إلَيْهِ رَسُولٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (17/308).
وقد سبق بيان هذا في جواب السؤال : (1244) ، (215066) .

الثاني:
أن يكون منتسباً إلى الإسلام , وقد ثبت له وصف الإسلام , وأعلن إقراره بالإسلام وتصديقه الكامل بالرسول صلى الله عليه وسلم .
فمثل هذا ، إذا فعل شيئا من المكفرات - جهلاً- : فإنه لا يكفر بذلك ، ولا يرتفع عنه وصف الإسلام حتى تقام عليه الحجة ويبين له .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: " فكل من كان مؤمنا بالله ورسوله ، مصدقا لهما ، ملتزما طاعتهما ، وأنكر بعض ما جاء به الرسول ، جهلا ، أو عدم علم أن الرسول جاء به : فإنه وإن كان ذلك كفراً ، ومن فعله فهو كافر ، إلا أن الجهل بما جاء به الرسول يمنع من تكفير ذلك الشخص المعيَّن ، من غير فرق بين المسائل الأصولية والفرعية ، لأن الكفر جحد ما جاء به الرسول أو جحد بعضه مع العلم بذلك .
وبهذا عَرفت الفرق بين المقلدين من الكفار بالرسول ، وبين المؤمن الجاحد لبعض ما جاء به جهلاً وضلالاً ، لا علماً وعناداً " انتهى من "الفتاوى السعدية" (ص: 443-447).

 

فالعذر بالجهل ثابت في كل ما يدين به العبد ربَّه ، سواء في مسائل الاعتقاد والتوحيد والشرك، أو مسائل الأحكام الفقهية .
ويدل على عذر المسلم بالجهل في مسائل العقيدة جملة من الأدلة الشرعية ، وهي :
الأول : النصوص الشرعية الدالة على إعذار المخطئ ، كقوله تعالى : ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )البقرة/ 286 .
وقد قال الله تعالى : ( قَدْ فَعَلْتُ ) ، كما في "صحيح مسلم" (126).
وقوله تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) الأحزاب/ 5 .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) رواه ابن ماجه (2043) ، وحسنه الألباني .
فهذه النصوص تدل على أن كل من خالف ما كُلف به ، ناسياً أو جاهلاً فإنه معفو عنه ؛ فالمخطئ يشمل الجاهل ؛ لأن المخطئ هو كل من خالف الحق بلا قصد .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي : " وهذا عام في كل ما أخطأ فيه المؤمنون من الأمور العملية والأمور الخبرية " انتهى من "الإرشاد إلى معرفة الاحكام" ص 208.
وقال الشيخ ابن عثيمين : " والجهل ـ بلا شك ـ من الخطأ ، فعلى هذا نقول : إذا فعل الإنسان ما يُوجب الكفر ، من قول أو فعل ، جاهلاً بأنه كفر ، أي : جاهلاً بدليله الشرعي، فإنه لا يكفر" انتهى من "الشرح الممتع" (14/449) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( قَدْ فَعَلْت) ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْخَطَأِ الْقَطْعِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ أَوْ ظَنِّيَّةٍ ... فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمُخْطِئَ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ أَوْ ظَنِّيَّةٍ يَأْثَمُ ، فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ الْقَدِيمَ" انتهى من "مجموع الفتاوى" (19/210).
وقال: " هَذَا مَعَ أَنِّي دَائِمًا وَمَنْ جَالَسَنِي يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنِّي: أَنِّي مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية ، الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً ، وَفَاسِقًا أُخْرَى ، وَعَاصِيًا أُخْرَى ، وَإِنِّي أُقَرِّرُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَطَأَهَا: وَذَلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ ".
انتهى من "مجموع الفتاوى" (3/229) .
وقال ابن العربي : " فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة ، ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركاً أو كافراً ، فإنه يعذر بالجهل والخطأ ، حتى تتبين له الحجة ، التي يكفر تاركها ، بياناً واضحاً ما يلتبس على مثله " انتهى ، وقد نقله عنه القاسمي في "محاسن التأويل" (3/161).
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي : " فنحن وإن قلنا في صورةٍ من صور السؤال ونحوها : إنَّ هذا دعاءٌ لغير الله تعالى وعبادةٌ وشرك ، فليس مقصودُنا أن كلَّ من فعل ذلك يكون مشركًا ، وإنما يكون مشركًا مَنْ فَعَلَ ذلك غيرَ معذور، فأما من فعلها معذورًا ، فلعلَّه يكون من خيار عباد الله تعالى ، وأفضلهم وأتقاهم" انتهى من " آثار الشيخ عبد الرحمن المعلمي" (3/ 826).

الثاني : النصوص الدالة على أن حجة الله على العباد لا تقوم إلا بعد العلم :
كقوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) الإسراء /15.
وقوله: ( رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) النساء/165 .
وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) التوبة/115 ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الحجة لا تقوم إلا بعد العلم والبيان .
فهذه الآيات تدل على : أن المكلف ليس مطَالباً بالتكاليف الشرعية إلا بعد علمه بها ، وإذا لم يعلم بها ، فإنه يكون معذوراً.
قال الشيخ ابن عثيمين مبينا فوائد هذه الآية (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ...) قال : " الفائدة العظيمة الكبرى وهي العذر بالجهل ، حتى في أصول الدين ؛ لأن الرسل يأتون بالأصول والفروع ، فإذا كان الإنسان جاهلاً لم يأته رسول ، فله حجة على الله ، ولا يمكن أن تثبت الحجة على الله إلا إذا كان معذورا " انتهى من "تفسير سورة النساء" (2/485).
وقال ابن القيم : " الأحكام إنما تثبت في حق العبد بعد بلوغه هو ، وبلوغها إليه ، فكما لا يترتب في حقه قبل بلوغه هو ، كذلك لا يترتب في حقه قبل بلوغها إليه " .
انتهى من "بدائع الفوائد" (4/168) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الرد على الإخنائي" تحقيق العنزي (ص: 206) :
" كذلك من دعا غير الله وحج إلى غير الله هو أيضًا مشرك، والذي فعله كفر، لكن قد لا يكون عالمًا بأن هذا شرك محرم.
كما أن كثيرًا من الناس دخلوا في الإسلام من التتار وغيرهم وعندهم أصنام لهم صغار من لبد وغيره وهم يتقربون إليها ويعظمونها ولا يعلمون أن ذلك محرم في دين الإسلام، ويتقربون إلى النار أيضًا ولا يعلمون أن ذلك محرم ، فكثير من أنواع الشرك قد يخفى على بعض من دخل في الإسلام ولا يعلم أنه شرك ، فهذا ضال ، وعمله الذي أشرك فيه باطل ، لكن لا يستحق العقوبة حتى تقوم عليه الحجة ، قال تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون )" انتهى.
الثالث : النصوص التي فيها إعذار من وقع في الشرك أو الكفر ، ومن ذلك:
1= قصة الرجل الذي أمر بإحراق نفسه وأنكر قدرة الله عليه .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ : إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ، ثُمَّ اطْحَنُونِي ، ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا.
فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ ، فَأَمَرَ اللَّهُ الأَرْضَ فَقَالَ : اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ، فَفَعَلَتْ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ.
فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ ؟
قَالَ: يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ ، فَغَفَرَ لَهُ) متفق عليه .

فالقول الذي صدر من هذا الرجل كفر أكبر مخرج من الملة ، لتضمنه إنكار قدرة الله على جمعه بعد الموت ، و"صفة القدرة" من أظهر الصفات وأبينها ، وهي من لوازم ربوبية الله وألوهيته ، بل هي من أخص أوصاف الرب ، ولكنه لم يكفر ؛ لأنه كان معذوراً بجهله .
قال ابن عبد البر: " اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ ، فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ : هَذَا رَجُلٌ جَهِلَ بَعْضَ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهِيَ الْقُدْرَةُ ، فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ، قَالُوا : وَمَنْ جَهِلَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَآمَنَ بِسَائِرِ صِفَاتِهِ وَعَرَفَهَا ، لَمْ يَكُنْ بِجَهْلِهِ بَعْضَ صِفَاتِ اللَّهِ كَافِرًا ، قَالُوا : وَإِنَّمَا الْكَافِرُ مَنْ عاند الحق لا من جهله .
وهذا قول المتقدمين مِنَ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ " .
انتهى من "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (18/42) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فَهَذَا رَجُلٌ شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَفِي إعَادَتِهِ إذَا ذُرِّيَ ، بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ ، وَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، لَكِنْ كَانَ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ ، وَكَانَ مُؤْمِنًا يَخَافُ اللَّهَ أَنْ يُعَاقِبَهُ : فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ" انتهى من "مجموع الفتاوى" (3/231) .
وقال أيضا : " فَهَذَا الرجل اعْتقد أَن الله لَا يقدر على جمعه إِذا فعل ذَلِك ، أَو شكّ ، وَأَنه لَا يَبْعَثهُ ؛ وكل من هذَيْن الاعتقادين كفر ، يكفر من قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة ، لكنه كَانَ يجهل ذَلِك ، وَلم يبلغهُ الْعلم بِمَا يردهُ عَن جَهله ، وَكَانَ عِنْده إِيمَان بِاللَّه وبأمره وَنَهْيه ووعده ووعيده ، فخاف من عِقَابه ، فغفر الله لَهُ بخشيته .
فَمن أَخطَأ فِي بعض مسَائِل الِاعْتِقَاد من أهل الْإِيمَان بِاللَّه وبرسوله وباليوم الآخر وَالْعَمَل الصَّالح ، لم يكن أَسْوَأ حَالا من الرجل ، فَيغْفر الله خطأه ، أَو يعذبه إِن كَانَ مِنْهُ تَفْرِيط فِي اتِّبَاع الْحق على قدر دينه .
وَأما تَكْفِير شخص عُلم إيمَانه بِمُجَرَّد الْغَلَط فِي ذَلِك: فعظيم" انتهى من "الاستقامة" (1/164).
وقال الإمام الشافعي : " للهِ أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ، جَاءَ بِهَا كِتَابُهُ ، وَأَخْبَرَ بِهَا نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ ، لاَ يَسَعُ أَحَداً قَامَتْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ رَدُّهَا ، لأَنَّ القُرْآنَ نَزَلَ بِهَا ، وَصَحَّ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القَوْلَ بِهَا .
فَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ : فَهُوَ كَافِرٌ ، فَأَمَّا قَبْلَ ثُبُوْتِ الحُجَّةِ ، فَمَعْذُورٌ بِالجَهْلِ ، لأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لاَ يُدْرَكُ بِالعَقْلِ ، وَلاَ بِالرَّوِيَّةِ وَالفِكْرِ ، وَلاَ نُكَفِّرُ بِالجَهْلِ بِهَا أَحَداً إِلاَّ بَعْدَ انتهَاءِ الخَبَرِ إِلَيْهِ بِهَا" انتهى نقلا عن "سير أعلام النبلاء" (10/79) .
2= قصة بني إسرائيل مع موسى .
قال تعالى : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) الأعراف/ 138 - 141.
فقد طلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم صنماً يتقربون بعبادته إلى الله كما اتخذ هؤلاء المشركون أصناماً يعبدونها .
قال ابن الجوزي : " وهذا إخبار عن عظيم جهلهم حيث توهموا جواز عبادة غير الله ، بعد ما رأوا الآيات". انتهى من "زاد المسير" (2/150) .
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي : " يظهر من جواب موسى عليه السلام أنه وإن أنكر عليهم جهلهم : لم يجعل طلبهم ارتدادا عن الدين ، ويشهد لذلك أنهم لم يؤاخذوا هنا ، كما أوخذوا به عند اتخاذهم العجل ، فكأنهم هنا - والله أعلم - عذروا بقرب عهدهم " .
انتهى من "مجموع رسائل المعلمي" (1/142).
3= قصة ذات أنواط .
عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: " خَرَجَنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ حُنَيْنٍ، فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ ، فَقُلْنَا : يَا نَبِيَّ اللهِ ، اجْعَلْ لَنَا هَذِهِ ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لِلْكُفَّارِ ذَاتُ أَنْوَاطٍ ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يَنُوطُونَ سِلَاحَهُمْ بِسِدْرَةٍ ، وَيَعْكُفُونَ حَوْلَهَا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( اللهُ أَكْبَرُ ، هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى : (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً) إِنَّكُمْ تَرْكَبُونَ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ " رواه الترمذي (2180) وصححه ، ورواه الإمام أحمد (21900) واللفظ له ، وصححه الشيخ الألباني.
فقد طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما هو شرك أكبر ، وهو أن يشرع لهم التعلق بالشجر كما كان يفعل المشركون ، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم قولهم مثل قول بني إسرائيل لموسى .
قال محمد رشيد رضا : " إن الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما ذُكر ، كانوا حديثي عهد بالشرك ، فظنوا أن ما يجعله لهم النبي من ذلك يكون مشروعا ، لا ينافي الإسلام " .
انتهى من تعليقه على "مجموع الرسائل والمسائل النجدية"(4/39) .

وقد سئل الشيخ عبد الرزاق عفيفي عن القبوريين الذين يعتقدون في الموتى ، ويطلبون منهم ، فقال الشيخ رحمه الله : " هم مرتدون عن الإسلام إذا أقيمت عليهم الحجة ، وإلا فهم معذورون بجهلهم ، كجماعة الأنواط " انتهى من "فتاوى الشيخ عبد الرزاق عفيفي" ص 371.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحداً من الأموات ، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم ، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها ، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها.
كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ، ونحو ذلك ، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله.
لكن لغلبة الجهل ، وقلّة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين ، لم يمكن تكفيرهم بذلك ، حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يخالفه ".
انتهى من كتاب "الرد على البكري" (2/ 731).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد : " وأمَّا دعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم ، وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات : فهو شرك أكبر مُخرجٌ من الملَّة .
ويُقال لهذا الفعل: شرك وكفر ، ولا يُقال لكلِّ من فعل ذلك إنَّه مشرك كافر ؛ فإنَّ من فعل ذلك وهو جاهل : معذورٌ لجهله ، حتى تُقام عليه الحجَّة ويفهمها ، ثمَّ يُصرُّ على ذلك ، فإنَّه حينئذ يُحكم بكفره وردَّته .
والفتنة في القبور من الأمور التي يكون فيها لَبسٌ عند كثير من الناس ، مِمَّن نشأ في بيئة تعتبر تعظيم القبور ودعاء أصحابها من محبَّة الصالحين، لاسيما إذا كان بينهم أحد من أشباه العلماء الذين يتقدَّمونهم في تعظيم القبور والاستغاثة بأصحابها، زاعمين أنَّهم وسائط تقرِّب إلى الله ". انتهى من " كتب ورسائل العلامة العباد" (4/372) .

4= عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ، وَلَا صَلَاةٌ، وَلَا نُسُكٌ، وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ، فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَنَحْنُ نَقُولُهَا ) .
فَقَالَ لَهُ صِلَةُ: مَا تُغْنِي عَنْهُمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ، وَلَا صِيَامٌ، وَلَا نُسُكٌ، وَلَا صَدَقَةٌ؟
فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلَّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: ( يَا صِلَةُ ، تُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ) ثَلَاثًا. رواه ابن ماجه (4049) وصححه البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 291) ، وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/171) .
فهذا الحديث يدل على أن أولئك القوم ليس عندهم إلا إيمان مجمل بالإقرار بالتوحيد ، ولا يعرفون عن الإسلام شيئا إلا مجرد الإقرار الذي وجدوا عليه آبائهم .
قال ابن تيمية : " وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ قَدْ يَنْشَأُ فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ الَّذِي يَنْدَرِسُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ عُلُومِ النُّبُوَّاتِ ، حَتَّى لَا يَبْقَى مَنْ يُبَلِّغُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ، فَلَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا يَبْعَثُ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ، وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ مَنْ يُبَلِّغُهُ ذَلِكَ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكْفُرُ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ، وَكَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ ، فَأَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ : فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ" .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (11/407) .

والحاصل :
أن : " الجهل الذي يعذر به الإنسان ، بحيث لا يعلم عن الحق ، ولا يذكر له : هو رافع للإثم والحكم على صاحبه بما يقتضيه عمله ، ثم إن كان ينتسب إلى المسلمين ، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، فإنه يعتبر منهم ، وإن كان لا ينتسب إلى المسلمين فإن حكمه حكم أهل الدين الذي ينتسب إليه في الدنيا.
وأما في الآخرة فإن شأنه شأن أهل الفترة ، يكون أمره إلى الله عز وجل يوم القيامة، وأصح الأقوال فيهم أنهم يمتحنون بما شاء الله ، فمن أطاع منهم دخل الجنة ، ومن عصى منهم دخل النار" انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين" (2/ 128).
وينظر جواب السؤال : (215338) ، (111362) .

وللاستزادة يراجع كتاب " إشكالية الإعذار بالجهل في البحث العقدي" للدكتور سلطان العميري.
والله أعلم .

العقيدة
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب