الحمد لله.
دعوى تفسير القرآن الكريم والسنة النبوية بما يتناسب مع عصرنا وزماننا تنطوي في داخلها على صواب وخطأ، وبعبارة أخرى تحتمل فهما صحيحا، وتحتمل فهما خاطئا، وذلك بحسب مراد السائل منها، وبحسب ما شحنت به هذه العبارة ونحوها من الأغراض الأصيلة أو المستوردة.
فإذا كان المقصود إعادة تفسير الثوابت والمحكمات بما يخرجها عن أصالتها وقطعيتها، ويقلب معانيها ومقاصدها إلى تفسير رغائبي مضطرب باضطراب آراء الناس وأفكارهم، فهذا مقصد باطل ولا شك، لا يتوقف عند إلغاء النص القرآني ونورانيته فحسب، بل يتجاوز إلى إلغاء العقل الذي نعي به ونعقل ما نقرأ وما نسمع.
ذلك أن اللغة العاقلة التي ركبت في البشر جميعا – كل بحسب بيئته – هي ناقل أمين للمقاصد والمعاني، وأساس حي للتواصل والتفاهم. وهذا شأن مستقر في عقول الناس وقلوبهم، من سمع منهم ثناء من أحد، أو قدحا، أو ذما، أو أمرا، أو نهيا، واضح العبارة، جلي الإشارة، فإن من الجنون أن يَعكِسَ فهمَه لتلك المقامات اللغوية، فيغير قراءتها بما يتناسب وبيئته، بزعمه ، فيجعل الثناء ذما، والأمر نهيا، والخبر خيالا، ونحو ذلك من الفهم المتردي في دركات الضياع الحقيقي!
فلماذا يلجأ هؤلاء لمثل هذا التصرف بالقرآن الكريم أو السنة المطهرة! وهم يعلمون أن مقاصد القرآن الأساسية نصيَّة واضحة، لا تنقضها أوهام الاحتمالات، ولا تغيرها اجتهادات المغرضين.
يقول الله عز وجل: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ) الرعد/ 37.
وقال تعالى: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الزمر/ 27، 28 .
والعلم والهداية التي نزل بها القرآن الكريم والسنة المطهرة ، هي هداية الثوابت الكبرى ، والمقاصد العليا، التي تعرف الإنسان بأسباب وجوده، وغاية خلقه، وحقيقة علاقته بخالقه جل وعلا، وما وراء الموت من بعث وحساب، وتبين للناس طريق الفضيلة، ونور الأخلاق والقيم النبيلة، ومقاصد الشريعة التي تحفظ على الناس ضروراتهم وحاجاتهم، وتسوق قصص الرسل والأنبياء الذين حملوا مشاعل الأنوار في حكاية البشرية كلها، وتضرب الأمثال بما قدموا من التضحيات، وما تعرضوا له من مواقف الأمم والشعوب، لتكون فيها العظة والعبرة لجميع الأجيال، كي لا تضل البشرية عن غاية وجودها الذي يختصره قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) الملك/ 2 .
ومن حق جميع الناس أن يتساءلوا في هذا المقام: ما الذي سيتغير في هذه الثوابت العظمى مع تغير الزمان والمكان!
وكيف يمكن قلب هذه المقاصد الكلية لتناسب عصرنا وحاضرنا، وهي في مادتها وصورتها وحقيقتها قيم ثابتة أصيلة لا تبدلها الأزمان ، ولا الأمكنة، ولا الأحوال. بل كانت ثابتة مستقرة في شرائع جميع الرسل والأنبياء ، وستبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
"ومعنى ذلك أنَّ ما تضمنته النُّصوصُ الشَّرعيَّةُ من أوامر ونواه إنَّما كانت موجَّهةً إلى الناس الموجودين في زمن نزول الوحي، أو كانت حالُهم تشبه حالَ مَن نزل عليهم القرآن؛ وأمَّا مَن جاء بعدَهم وعاش واقعًا غيرَ واقعهم فلا يشمله النَّصُّ الشَّرعيُّ.
فإذا تغيرت أوضاع الناس في مجمل حياتهم – كما هو الأمر في حياة الناس اليوم – فإنَّ تلك الأحكامَ التي يتضمَّنها النَّصُّ ليست متعلِّقةً بهم أمرًا ونهيًا، ولهم أن يتديَّنوا فهمًا وتطبيقًا بخلافها؛ معتبرين أنَّ ذلك هو الدِّين الصَّحيح في حقِّهم، كما كانت تلك الأحكام هي الدِّين الصَّحيح في حقِّ المخاطبين زمنَ النُّزول.
يقولُ أحدُهم: موقفُ القرآن الكريم من المرأة كان موقفًا في عصر معيَّن، ووضعت تلك القواعدُ لعصر معيَّن، ومن الممكن جدًّا أنَّ مثلَ هذه الأشياء قد لا يَسمح العصر الذي نعيش فيه بتطبيقها. [حوار حول قضايا إسلامية، إقبال بركة، ص102]
وقال آخرُ: ونحنُ نعرف أنَّ النُّصوصَ القديمةَ ليست مقطوعةَ الصِّلة بالمجتمعات القديمة، وأنَّ نظامَ الحكم ومكانةَ المرأة وحقوقَ الإنسان وواجباته وعلاقةَ الدِّين بالسُّلطة في هذه النُّصوص تعبير عن واقع قديم لم يعدّ موجودًا ولم نعدّ في حاجة إليه.
ويرى بعضُهم أنَّ ما فُرض من تفاصيل العبادات والمعاملات هو أثرٌ لمقتضيات البيئة الحجازيَّة البسيطة في عصر الرَّسول صلى الله عليه وسلم دون غيرها من البيئات [الإسلام بين الرسالة والتاريخ لعبد المجيد الشرفي، ص61]؛ فالإنسانُ اليومَ في حلٍّ من تلك الفروض بمقتضى أوضاعه الجديدة، والخطاب القرآنيّ بصيغة (يا أيُّها النَّاس)، المقصود بالنَّاس هنا الجماعة الأولى التي كانت تحيطُ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، والتي سمعت القرآن من فَمه لأَوَّل مرَّة.
[الفكر الأصولي لأركون، ص30]
ويقولُ أحدُهم: كذلك من الملائم هنا إعادةُ النَّظَر ببعض التَّشريعات الفقهيَّة الملازمة لزمانها، والتي لا يمكن تصوُّر تطبيقها حاليًا بعد تطوُّر الفكر السِّياسيِّ العالميِّ، وعلى رأسها ما يعرف بـ [فقه أهل الذِّمَّة]... فلا مجالَ لإعمال مثل هذا الفقه المرتبط بظروف سالفة.
ويطالب بـ إعادة النَّظَر ببعض التَّشريعات الفقهيَّة الاقتصاديَّة التي كان تشريعُها ملازمًا لواقعها الاجتماعيِّ المختلف كليَّةً عن واقعنا المعاصر، ويأتي على رأسها ما يتعلَّق بعمليَّات البنوك التي تمثِّل عصبَ الاقتصاد المعاصر؛ مثل العوائد على رؤوس الأموال المقرضة والتي كان الهدفُ من تحريمها آنذاك حمايةَ الضُّعفاء والمحتاجين من أن تُسْتَغَلَّ حاجتُهم إلى الأموال لتمويل قُوتهم اليوميّ؛ فتتراكم عليهم الدُّيون ويستولي المقرضون على بيوتهم ومزارعهم.
وأحكامُ الحدود إنَّما أَمْلَتْها الظُّروفُ التي كان عليها المجتمعُ آنذاك؛ حيث كان المجتمعُ بدائيًّا ليس فيه دولةٌ تقوم على استتباب الأمن؛ وإنَّما يتواثب فيه الناس بعضُهم على بعضهم للانتقام؛ فتكون إقامةُ الحدود: أقلَّ الحلول شرًّا، وأدناها مَضَرَّةً؛ لأنَّها على ما فيها من وحشية تمثِّل وقايةً لمجتمع تلك الفترة ممَّا هو أسوأُ وأعنفُ وأكثرُ فظاعةً.
[الإسلام والحرية الالتباس التاريخي، محمد الشرفي، ص89] .
والحجاب لم يَعُدْ ملائمًا للعصر بزعمهم ، ولا لمكانة المرأة وتحرُّرها، واقتحامها لكافَّة مجالات الحياة العامَّة من مدارس وجامعات ومعامل وإدارات وتجارات. بل حتى العبادات قابلة للتَّغيير في هذا العصر؛ فطريقةُ العبادة التي التزمها المسلمون زمنَ نزول القرآن ليست ملزمةً لمن يأتي بعدهم إذا ما تغيَّرت ظروف الحياة؛ بل يمكنهم أن يأتوا من هذه العبادات بما يلائم ظروفَهم الجديدةَ.
فإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم - على سبيل المثال - يؤدِّي صلاتَه على نحو معين، إلا أنَّ ذلك لا يَعني أنَّ المسلمين مضطَّرُّون في كلِّ الأماكن والأزمنة والظُّروف للالتزام بذلك النحو. [الإسلام بين الرسالة والتاريخ، عبد المجيد الشرفي (62-63)]
وبناءً على هذا المبدأ ستنتهي هذه القراءةُ إلى أن لا يكون للنُّصوص الشَّرعيَّة معنى ثابتٌ؛ فما يفهم عند أهل زمن على أنَّه مطلوبٌ يصبح عند غيرهم غيرَ مطلوب، وما يُفهم عندهم على أنَّه غير مطلوب يُفهم عند غيرهم على أنَّه مطلوب؛ نتيجةَ تَغَيُّر الثَّقافات بين الأزمان. .
[النصُّ، السُّلطة، الحقيقة، لنصر حامد أبو زيد، ص139]
وسببُ هذا الضَّلال في الفهم يرجع لنظرتهم لنصوص القرآن والسُّنَّة على أنَّها نصوصٌ بشريَّةٌ تعامَل كبقيَّة النُّصوص؛ فيجري عليها ما يجري على غيرها من النُّصوص، وتخضع لمقتضيات التاريخ وتغيُّراته.
ولذلك يقول نصر حامد أبو زيد: "إنَّ النَّصَّ القرآنيَّ - وإن كان نصًّا مقدَّسًا - إلَّا أنَّه لا يخرج عن كونه نصًّا؛ فلذلك يجب أن يَخضع لقواعد النَّقد الأدبيِّ كغيره من النُّصوص الأدبيَّة" .
[مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، نصر أبو زيد (24)]
ويقول أركون: " إنَّ القرآنَ ليس إلَّا نصًّا من جملة نصوص أخرى تحتوي على نفس مستوى التَّعقيد والمعاني الفوَّارة الغزيرة؛ كالتَّوراة والإنجيل والنُّصوص المؤسسة للبوذيَّة أو الهندوسيَّة، وكل نص تأسيسيّ من هذه النصوص الكبرى حظي بتوسُّعات تاريخيَّة معيَّنة، وقد يحظى بتوسُّعات أخرى في المستقبل ". [الفكر الأصولي لمحمد أركون (36)] .
وفي هذا من التَّلبيس ما فيه؛ فكيف يَستوي كتاب الله مع الكتب المحرَّفة، أو تلك التي اكتتبها بشر؟! وكيف يُقاس كلامُ ربِّ العالمين الذي علم ما كان وما سيكون على كلام الإنسان الذي لا يدرك من العلم إلَّا قليلاً؟! إنَّ كلامَ الله لا يمكن حصرُه وتقييدُه بزمن معين؛ لأنَّ اللهَ أنزله ليكون دستورًا للنَّاس في كلِّ زمان ومكان، وهو يعلم ما يَصلح لعبيده ويناسبهم في جميع الأزمنة والأحوال، لا يخفى عليه شيء وهو السَّميع البصير. ونقول لهؤلاء: (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) [البقرة: 140]" .
انتهى من كتاب "بدعة إعادة فهم النص" ، للمشرف العام على الموقع الشيخ محمد صالح المنجد (ص51-56)
ونرجو من السائل أن يراجع الكتاب بتمامه في هذا الرابط http://almunajjid.com/295
أما إذا كان المقصود من الدعوى الواردة في السؤال مقام التجديد في تنزيل نصوص الوحي على المستجدات في زماننا، ومقام التحرك الحي بكل الجزئيات والتفاصيل التي تخدم مقاصد القرآن والسنة وثوابتهما، وتعظم شعائرهما ، وشعائر الشرع عامة ، وتحمل على الوقوف عند الأمر والنهي الشرعيين ، مع مراعاة تغير الزمان والمكان والحال في مسائل الاجتهاد والنظر المصلحي ، فيما لم يأت بشأنه نص خاص ، وتفهم فلسفته ورسالته بما يعالج هموم الإنسان الحديث، ويمكنه من ترسيخ التشريعات التي هي مراد الله من عباده، فهذا مقصد صحيح كلنا نسعى إليه، ويقره جميع العلماء، ويجتهد في تحقيقه جميع المجتهدون في الأزمنة والعصور .
يبحثون - مثلا - عما يمكن تحقيقه وتنزيله من قيمة "الصدق" في متغيرات مجتمعهم، وما يمثله الإيمان بالغيب والبعث والنشور من فلسفة متكاملة تعالج هموم العصر وآفات الزمان، والأثر الكبير في تحقيق العدالة في شرائع الناس وأحكامهم ، إذا تبنت دساتيرهم وقوانينهم قواعد فقه العدالة والرحمة، ومقاصد الشريعة الخاتمة، وما تحت هذه الأمثلة وغيرها من تفاصيل لا حصر لها، كلها مقاصد نبيلة، ومعان صحيحة، ندعو إليها جميعا، كما دعت إليها الشريعة الإسلامية نفسها، حين انطوت في داخلها على عوامل صلاحيتها لكل زمان ومكان، بما يؤهلها لمناسبة العصور، ويعين المجتهدين فيها على فهم سنن "التغيير"، وعدم الجمود على قوالب عرفية، الأمر الذي لا يدرك حقيقته إلا من فهم علم "أصول الفقه"، و"قواعد التفسير"، وفلسفة "عقيدة الإسلام" .
وهذا النوع من "إعادة التفسير" ينضبط لدى العلماء والمفسرين والفقهاء بضوابط عديدة، من أهمها:
1. التزام معيار الإجماع، فما أجمع عليه العلماء يبقى ثابتا لا يتغير ولا يتبدل، وما اختلف فيه العلماء يقبل النظر والتأمل، ويشكل المساحة المتاحة للتجديد.
2. التزام قواعد اللغة العربية، من جهة معاني المفردات، وفهم السياق العربي كما فهمه الأولون الذين نزل القرآن بلغتهم، واجتناب كل ما يخالف ضوابط اللغة والفهم العربي السليم.
3. النظر في جميع الأدلة الشرعية المقارنة للنص المفسر، وتفسير القرآن في ضوء القرآن نفسه، وفي ضوء السنة المطهرة وأقوال الصحابة والتابعين، فمصادر التشريع – كما يبينها الأصوليون – عديدة، لا بد للمفسر من الاستعانة بها كي ينتج عنده الفهم السليم، وكي ينضبط اجتهاده بالمنهج الصحيح، وإلا خرج اجتهاده عن القصد والعدل.
4. ومن أهم ضوابط هذا النوع من "إعادة التفسير" أن يقوم به المؤهلون، الذين يجمعون بين العلم والتقوى، والذين يشهد لهم أهل العلم بالمعرفة والتخصصية وإتقان علوم الآلات وعلوم المقاصد، مع صلاح الدين ، واستحضار الخوف من الله سبحانه. وبهذا ينسد الباب على المتسورين على حرمات القرآن الكريم، المقتحمين أبواب العلم بالجهل، المتشبعين بما لم يُعْطَوْا من علوم النقل والعقل.
والله أعلم.