الحمد لله.
أولا:
من زعم الاكتفاء بالقرآن وأعرض عن السنة فهو ضال ضلالا بينا، وكافر بنعمة الله في إرسال رسول يفصل كتابه ، ويبين لنا ما أنزل إلينا، كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل/44
ومن الخطأ مناقشة هؤلاء في الفروع مع فساد الأصل، فإن ما بني على باطل فهو باطل .
وهؤلاء لما حرموا أنفسهم من السنة ، لم يكن أمامهم في فهم القرآن إلا القول على الله بلا علم، وهو كبيرة عظيمة من كبائر الذنوب، لقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) الأعراف/33.
وينظر في بيان ضلال من يسمون بالقرآنيين: جواب السؤال رقم (220518)
ثانيا:
ما حكيته عن هؤلاء بشأن قطع السارق : نموذج من ضلالاتهم وانحرافاتهم، ودلالة على جهلهم بالشرع، وباللغة، فإن (الأيد) في قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) مفرد ليس جمعا، والأيد: القوة.
وأما في آية السرقة، فالأيدي جميع يد، وإنما جاء التعبير بالجمع لا بالتثنية، لحِكَم، منها أنه لم يُرد سارقا واحدا أو سارقة واحدا، وإنما أراد جنس السراق.
ومنها أن لغة العرب تميز بين أعضاء الإنسان، فما يوجد في الإنسان منه عضو واحد ، أو أريد منه عضو واحد : فإنه عند التثنية يجمع، كقوله: (قد صغت قلوبكما).
قال السمعاني في تفسيره (2/ 36): " فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ أَيْدِيهِمَا وَالْمَذْكُور اثْنَان، وَلم يقل: يديهما؟
قيل: لم يرد بِهِ سَارِقا وَاحِدًا، أَو سارقة وَاحِدَة، وَإِنَّمَا ذكر الْجِنْس؛ فَلذَلِك ذكر الْأَيْدِي.
قَالَ الْفراء، والزجاج: كل مَا يوحد فِي الْإِنْسَان، فَإِذا ذكر مِنْهُ اثْنَان يجمع؛ يَقُول الله - تَعَالَى - فقد صغت قُلُوبكُمَا وَتقول الْعَرَب: مَلَأت ظهورهما وبطونهما ضربا، وَلكُل وَاحِد ظهر وبطن وَاحِد، فَكَذَلِك الْيَمين للْإنْسَان وَاحِدَة؛ فَيجمع عِنْد التَّثْنِيَة" انتهى.
وقال الكرماني رحمه الله في غرائب التفسير (1/ 330): " وإنما جمع، لأن أعضاء الوتر ، إذا نسب إلى إنسانين : جُمع في موضع التثنية، كقوله: (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، و (حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا).
قال الفراء: لأن الغالب في الأعضاء الشفع ، فأجرى الوتر مجرى الشفع .
وهذا فيه بعد؛ لأنه يؤدي إلى الالتباس. والجواب المرضي: أن التثنية في الأصل جمعٌ ، لوجود معنى الجمع فيه، فأفرد للثنية صيغة حيث يقع التباس، وحيث لم يقع : رُدّ إلى الأصل" انتهى.
وقال ابن عطية رحمه الله في تفسيره (2/ 189): " فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما : جمع الأيدي ، من حيث كان لكل سارق يمين واحدة ، وهي المعرضة للقطع في السرقة أولا، فجاءت للسراق أيد ، وللسارقات أيد، فكأنه قال: اقطعوا أيمان النوعين، فالتثنية في الضمير إنما هي للنوعين.
قال الزجاج عن بعض النحويين: إنما جعلت تثنية ما في الإنسان منه واحد جمعا ، كقوله: صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: 4] ، لأن أكثر أعضائه فيه منه اثنان، فحمل ما كان فيه الواحد على مثال ذلك.
قال أبو إسحاق: وحقيقة هذا الباب : أن ما كان في الشيء منه واحد : لم يُثنَّ ، ولُفِظ به على لفظ الجمع ، لأن الإضافة تبينه. فإذا قلت: أشبعتُ بطونَهما، عُلم أن للاثنين بطنان.
قال القاضي أبو محمد: كأنهم كرهوا اجتماع تثنيتين في كلمة" انتهى.
وقال السمين الحلبي في الدر المصون (4/ 262): " قوله: أَيْدِيَهُمَا جمعٌ واقعٌ موقعَ التثنيةِ ، لأمْنِ اللَّبْس، لأنه معلومٌ أنه يُقْطَعُ مِنْ كلِّ سارقٍ يمينه، فهو من باب صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم: 4] .
ويدل على ذلك قراءةُ عبد الله: فاقطعوا أيمانَهما واشترط النحويون في وقوعِ الجمع موقعَ التثنية شروطاً، ومن جملتها: ان يكون ذلك الجزءُ المضافُ مفرداً من صاحبِه ، نحو: قلوبكما ، و رؤوس الكبشين ، لأمن الإِلباس بخلافِ العينين واليدين والرجلين، لو قلت: فَقَأْتُ أعينَهما ، وأنت تعني عينيهما، وكَتَّفْتُ أيديَهما ، وأنت تعني يديهما لم يَجُزْ ، لِلَّبْسِ .
فلولا أنَّ الدليل دَلَّ على أن المراد : اليدان ، اليمنيان ؛ لَما ساعَ ذلك .
وهذا مستفيضٌ في لسانهم - أعني وقوعَ الجمعِ موقعَ التثنيةِ بشروطِه - قال تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم: 4] " انتهى.
وقال ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير (6/ 190): " وَجُمِعَ الْأَيْدِي بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِ نَوْعِ السَّارِقِ. وَثُنِّيَ الضَّمِيرُ بِاعْتِبَارِ الصِّنْفَيْنِ ، الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى .
فَالْجَمْعُ هُنَا : مُرَادٌ مِنْهُ التَّثْنِيَةُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التَّحْرِيم: 4] " انتهى.
وقال السيد رشيد رضا رحمه الله في المنار (6/ 314): " وإنما جمع اليد، ولم يقل يديهما ; لأن فصحاء العرب يستثقلون إضافة المثنى إلى ضمير التثنية ; أي الجمع بين تثنيتين، ومثله قوله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) (66: 4) " انتهى.
فتحصل من هذا : أن الجمع جار على لغة العرب في مثله، وأنه يفضّل على التثنية؛ لخفته، مع أمن اللبس، لأنه معلوم أنه تقطع يد واحدة، ولمراعاة الكلام على جنس السراق.
وقد بينت السنة الصحيحة من أين تقطع اليد، كما بينت النصاب الذي تقطع فيه، وهذا دليل على أنه لا يمكن الاكتفاء بالقرآن.
ثالثا:
أما تفسير القطع بالحبس أو الطرد من العمل، فهو تفسير سمج بارد، بل تحريف ظاهر لا يعرف من لغة ولا شرع .
وكان على ضلالهم وظاهريتهم أن يقولوا: تقطع اليدان من السارق، ليتم الجمع، فلم عدلوا عن هذا؟!
هل راعوا السنة ، أم الإجماع ، أم لغة العرب ، أم تفسير المفسرين ؟؟!
فالأمر كما ذكرت، وأنه يلزمهم على ظاهر هذه الكلمة أن يقولوا: تقطع يدا السارق، لا أن يحرفوا معنى القطع بما لا تدل عليه اللغة.
والله أعلم.