الحمد لله.
أولًا:
إن القرآن المجيد أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض، وهو عليم بعباده، وهو الذي أنشأهم أول مرة .
ثانيًا:
إن الآية الكريمة تبين مراحل خلق الإنسان، فقد "ذكر الله في هذه الآيات أطوار الآدمي وتنقلاته، من ابتداء خلقه إلى آخر ما يصير إليه، فذكر ابتداء خلق أبي النوع البشري آدم عليه السلام، وأنه (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) أي: قد سلت، وأخذت من جميع الأرض، ولذلك جاء بنوه على قدر الأرض، منهم الطيب والخبيث، وبين ذلك، والسهل والحزن، وبين ذلك.
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ أي: جنس الآدميين (نُطْفَةً) تخرج من بين الصلب والترائب، فتستقر (فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) وهو الرحم، محفوظة من الفساد والريح وغير ذلك.
(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ) التي قد استقرت قبل (عَلَقَةً) أي: دما أحمر، بعد مضي أربعين يوما من النطفة، (فخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ) بعد أربعين يوما (مُضْغَةً) أي: قطعة لحم صغيرة، بقدر ما يمضغ من صغرها.
(فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ) اللينة عِظَامًا صلبة، قد تخللت اللحم، بحسب حاجة البدن إليها، (فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا) أي: جعلنا اللحم، كسوة للعظام، كما جعلنا العظام، عمادا للحم، وذلك في الأربعين الثالثة، (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) نفخ فيه الروح، فانتقل من كونه جمادا، إلى أن صار حيوانا، (فَتَبَارَكَ اللَّهُ) أي: تعالى وتعاظم وكثر خيره (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)(الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) فخلقه كله حسن، والإنسان من أحسن مخلوقاته، بل هو أحسنها على الإطلاق، كما قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ولهذا كان خواصه أفضل المخلوقات وأكملها" "تفسير السعدي"(548).
ثالثًا:
والفاء المذكورة، وإن كانت للتعقيب إلا أن تعقيب كل شيء بحسبه، قال ابن كثير: "الفاء وإن كانت للتعقيب، ولكن تعقيب كل شيء بحسبه" انتهى من "تفسير ابن كثير"(5/ 222).
فالله تعالى لم يذكر كل مراحل تطور الجنين بصورة مفصلة، وإنما ذكرها بصورة مجملة، وهي هنا: أن المضغة تتحول عظامًا بطريقة لم يذكرها الله في القرآن مفصلة، وإنما ذكرها مجملة، فالفاء هنا: للمهلة، وهي بمعنى ثم .
انظر: "البرهان في علوم القرآن" (4/ 295).
قال الفيروز آبادي: " وترد الفاءُ عاطفة، وتفيد الترتيب، وهو نوعان: معنويّ ، كقام زيد فعمرو، وذِكْرىّ ، وهو عطف مفصّل على مُجمَل، نحو: فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ. وتفيد التعقيب، وهو في كلّ شيءٍ بحسبه؛ كتزوّجَ فوُلد له، وبينهما مدّة الحمل.
وتكون بمعنى ثُمَّ (ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً) "انتهى من "بصائر ذوي التمييز"(4/ 158).
ثم اعلم أن القرآن عربي، ومن عربيته أنه يطلق الكل ويريد البعض، كما قال تعالى: (يجعلون أصابعهم في آذانهم)، والمراد بعضها، وهي: الأنامل .
فكذلك الآية التي معنا، فإنه أطلق المضغة ، وأراد بعضها ، وهو ما يتصلب منها حتى يصير عظمًا .
فتحصل مما سبق: أن عربية القرآن تفرض علينا أن نفهمه في ضوء لغة العرب، ولغة العرب ربما يطلق فيها الجزء ، يطلَق فيها الكل ويراد الجزء، والسياق يدل على ذلك ويوضحه .
والأمر هنا كذلك: فقد أطلق الله تعالى المضغة، وأراد بعضها، وهي ما يتحول منها إلى عظام، ويحيط بهذا العظام اللحم .
ويتبين بذلك أن ما ورد في السؤال : من أن إضافة "من" ، زيادة من المترجم ، أقحمها في النص القرآني ، والله لم يقل ذلك هذا الكلام غير محرر ، بل غير صحيح ؛ فإن المترجم لم يزد "من" ، على نص القرآن ، ولم يقحمها في النص العربي ، والمترجم أيضا لا ينقل "لفظ" القرآن ، أو "نصه" للغة التي يترجم إليها ، بل ينقل معنى الآية ، ويفسرها بهذه اللغة التي يكتب بها ، وينقل إليها ؛ وليست الترجمة "قرآنا" ، بل هي "تفسير" للقرآن ، و"بيان" لمعانيه ، بهذه اللغة الأخرى ، وأما القرآن نفسه : فهو العربي ، المكتوب في المصاحف ، المتلو بالألسنة .
وحينئذ ، فلا حرج على المترجم ، أو المفسر ، إذا وضع حرف "من" لبيان أن ما يتحول "عظاما" ، هو "بعض" هذه النطف التي في الأرحام ، وليس "كل" النطفة ، تكون عظاما .
والله أعلم .