هل يمكن الاستدلال بالآية ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) على أن ارتكاب المحظور غير المنصوص عليه أخف من ارتكاب المحظور المنصوص عليه ؟
الحمد لله.
قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ المائدة/101.
من المعاني التي يتناولها عموم هذه الآية؛ النهي عن التشدد والتّكلف في السّؤال عن الأمور والأشياء التي لم يذكرها الله تعالى بأمر أو نهي.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقيل: المراد بقوله: ( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) أي: لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق وقد ورد في الحديث: ( أَعْظَمَ المُسْلِمِينَ جُرْمًا، مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ) .
ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها حينئذ، تبينت لكم لاحتياجكم إليها " انتهى من "تفسير ابن كثير" (3 / 206).
ومما يدل على هذا المعنى أيضا حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ رواه مسلم (1337).
لكن الذي يجب أن يعلم هو أن المحرمات الشرعية لا تعرف – فقط- من خلال النص عليها في القرآن الكريم أو السنة النبوية ، بل هناك دلالات ومسالك أخرى تعرف بها أحكام الشرع تعتمد على الاجتهاد والاستنباط، فالبحث فيها لا يعتبر من السؤال المنهي عنه بل هو من الاجتهاد الواجب على أهل العلم.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
" فجماع ما أبان الله لخلقه في كتابه، مما تعبدهم به، لما مضى من حكمه جل ثناؤه: من وجوه.
فمنها: ما أبانه لخلقه نصا، مثل جمل فرائضه، في أن عليهم صلاة وزكاة وحجا وصوما، وأنه حرم الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن ...
ومنه: ما أحكم فرضه بكتابه، وبين كيف هو على لسان نبيه. مثل عدد الصلاة، والزكاة، ووقتها، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه.
ومنه: ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نص حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى حكمه، فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قبل.
ومنه: ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم ... " انتهى من "الرسالة" (ص 21 - 22).
فما يدرك بالاستنباط والاجتهاد يعتبر مما ذكره الشرع، لا مما سكت عنه.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" ولكن مما ينبغي أن يعلم: أن ذكر الشيء بالتحريم والتحليل : مما قد يخفى فهمه من نصوص الكتاب والسنة، فإن دلالة هذه النصوص قد تكون بطريق النص والتصريح، وقد تكون بطريق العموم والشمول، وقد تكون دلالته بطريق الفحوى والتنبيه، كما في قوله تعالى: ( فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا )، فإن دخول ما هو أعظم من التأفيف من أنواع الأذى يكون بطريق الأولى، ويسمى ذلك مفهوم الموافقة.
وقد تكون دلالته بطريق مفهوم المخالفة، كقوله: ( في الغنم السائمة الزكاة ) فإنه يدل بمفهومه على أنه لا زكاة في غير السائمة، وقد أخذ الأكثرون بذلك، واعتبروا بمفهوم المخالفة، وجعلوه حجة.
وقد تكون دلالته من باب القياس، فإذا نص الشارع على حكم في شيء لمعنى من المعاني، وكان ذلك المعنى موجودا في غيره، فإنه يتعدى الحكم إلى كل ما وجد فيه ذلك المعنى ، عند جمهور العلماء، وهو من باب العدل والميزان الذي أنزل الله، وأمر بالاعتبار به، فهذا كله مما يعرف به دلالة النصوص على التحليل والتحريم.
فأما ما انتفى فيه ذلك كله، فهنا يستدل بعدم ذكره بإيجاب أو تحريم ؛ على أنه معفو عنه " انتهى من "جامع العلوم والحكم" (2 / 164 - 165).
هذه المحرمات التي تدرك بالاجتهاد والاستنباط تكون حرمتها على درجتين:
الدرجة الأولى: المحرمات التي علمت عبر الاستنباط ، وأجمع أهل العلم على حرمتها، فقوة حرمتها كقوة المنصوص عليها.
لأن الله تعالى حرّم الخروج عن سبيل المؤمنين ، كما حرّم الخروج عما نص عليه الوحي.
قال الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا النساء/115.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما أجمعت عليه الأمة المحمدية، فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا، فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ، تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم صلى الله عليه وسلم. وقد وردت في ذلك أحاديث صحيحة كثيرة " انتهى من "تفسير ابن كثير" (2 / 412 - 413).
الدرجة الثانية: المحرمات التي أدركت بالاجتهاد والاستباط، لكن لم يتفق أهل العلم عليها، بل وجد من يخالف في حرمتها، ويرى جوازها أو كراهيتها فقط.
فهذ المحرمات، إذا اعتقد المسلم حرمتها وترجّح له ذلك، تكون حرمتها أقل درجة وأخف من المحرمات المنصوص عليها .
ولذا يرى أهل العلم؛ أن المضطر لو وجد طعامين محرمين، أحدهما مختلف فيه، والآخر مجمع عليه، فعليه أن يتناول المختلف فيه؛ لأنه أخف، ولأنه جائز على قول جماعة من أهل العلم.
ومن ذلك أيضا: ما اختلف فيه من أحكام الطهارات والنجاسات، ونحول ذلك.
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (1/249) بعد أن قرر أن خروج الدم الكثير ينقض الوضوء على مذهب الإمام أحمد، قال :
"وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ كَالدَّمِ فِيمَا ذَكَرْنَا ، وَأَسْهَلُ وَأَخَفُّ مِنْهُ حُكْمًا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا الْقَيْحَ وَالصَّدِيدَ كَالدَّمِ .
وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ فِي الصَّدِيدِ : لَا شَيْءَ ، إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي قُرْحَةٍ سَالَ مِنْهَا كَغُسَالَةِ اللَّحْمِ : لَا وُضُوءَ فِيهِ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : كُلُّ مَا سِوَى الدَّمِ لَا يُوجِبُ وُضُوءًا .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَعُرْوَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْحَكَمُ وَاللَّيْثُ : الْقَيْحُ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ .
فَلِذَلِكَ خَفَّ حُكْمُهُ عِنْدَهُ ، وَاخْتِيَارُهُ ، مَعَ ذَلِكَ : إلْحَاقُهُ بِالدَّمِ ، وَإِثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمِهِ فِيهِ ، وَلَكِنْ الَّذِي يَفْحُشُ مِنْهُ ، يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الَّذِي يَفْحُشُ مِنْ الدَّمِ" انتهى .
وقال في حكم التسمية في الغسل (1/292):
"فَعَلَى هَذَا تَكُونُ وَاجِبَاتُ الْغُسْلِ شَيْئَيْنِ لَا غَيْرُ ؛ النِّيَّةُ ، وَغَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ .
فَأَمَّا التَّسْمِيَةُ : فَحُكْمُهَا حُكْمُ التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ عَلَى مَا مَضَى ، بَلْ حُكْمُهَا فِي الْجَنَابَةِ أَخَفُّ ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ التَّسْمِيَةِ إنَّمَا تَنَاوَلَ بِصَرِيحِهِ الْوُضُوءَ لَا غَيْرُ" انتهى .
ومن وجوه الخلاف بينهما أيضا : ألا يشدد النكير في المسائل المستنبطة والمجتهد فيها ، ما يشدد في المنصوص عليه ، ولا يثرب عليهم فيها ، ما يثرب في مخالفة المنصوص .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه " انتهى من "مجموع الفتاوى" (30 / 80).
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" واعلم أنه لا يحكم على الأمر بأنه منكر، إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله تعالى، أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين.
وأما إن كان من مسائل الاجتهاد فيما لا نص، فلا يحكم على أحد المجتهدين المختلفين بأنه مرتكب منكرا، فالمصيب منهم مأجور بإصابته، والمخطئ منهم معذور، كما هو معروف في محله " انتهى من "أضواء البيان" (2 / 207).
والله أعلم.