الحمد لله.
أولا:
حديث الجارية: هو ما رواه مسلم (537) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: "بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَقَدْ جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، قَالَ: فَلَا تَأْتِهِمْ .
قَالَ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ، قَالَ: ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ، فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ - قَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ: فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ - .
قَالَ قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ، قَالَ: كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ .
قَالَ: وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً!! فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: ائْتِنِي بِهَا . فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ اللهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: مَنْ أَنَا؟ ، قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ ".
ثانيا:
الثابت في دعوة أهل الكفر إلى الإيمان أمرهم بشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله، وأما الامتحان والاختبار لإثبات الإيمان، فهذا نادر، ومنه هذا الحديث، وللرسول صلى الله عليه وسلم أن يختبر ويمتحن بما شاء، وقد اختار لامتحانها هذين السؤالين، وحكم لها بالإيمان بما أجابت، فلا تعقيب عليه صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني رحمه الله: "وإمامنا أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله احتج في كتابه المبسوط في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة، وأن غير المؤمنة لا يصح التكفير بها، بخبر معاوية بن الحكم، وأنه أراد أن يُعتق الجارية السوداء لكفارة، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إعتاقه إياها ، فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: من أنا؟ فأشارت إليه وإلى السماء، يعني أنك رسول الله الذي في السماء، فقال صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامها وإيمانها ، لما أقرت بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية.
وإنما احتج الشافعي رحمة الله عليه على المخالفين في قولهم بجواز إعتاق الرقبة الكافرة في الكفارة بهذا الخبر؛ لاعتقاده أن الله سبحانه فوق خلقه، وفوق سبع سماواته على عرشه، كما هو معتقد المسلمين من أهل السنة والجماعة، سلفهم وخلفهم؛ إذ كان رحمه الله لا يروي خبراً صحيحاً ثم لا يقول به" انتهى من "عقيدة السلف وأصحاب الحديث"، ص 188.
وقال الدكتور محمد خليل هراس رحمه الله: " هذا الحديث يتألق نصاعة ووضوحاً، وهو صاعقة على رؤوس أهل التعطيل، فهذا رجل أخطأ في حق جاريته بضربها، فأراد أن يكفّر عن خطيئته بعتقها، فاستمهله الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يمتحن إيمانها، فكان السؤال الذي اختاره لهذا الامتحان هو: أين الله؟ ولما أجابت بأنه في السماء رضي جوابها ، وشهد لها بالإيمان، ولو أنك قلت لمعطل: أين الله؟ لحكم عليك بالكفران " انتهى من "هامش كتاب التوحيد" لابن خزيمة، ص121.
فهذا ليس دعوة لمن كان كافرا ، أن يدخل في الإسلام بذلك ، عوضا عن النطق بالشهادتين؛ بل هو امتحان منه ، صلى الله عليه وسلم للجارية، ليعرف : هل هي مؤمنة ، أم كافرة؟
ولا يقال: لم اختبرها بذلك دون غيره؟ لأنه استدراك على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما جاء في امتحان الإيمان:
ما روى البيهقي في السنن الكبرى (15269) عن عُتْبَةَ، قَالَ: "جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمَةٍ سَوْدَاءَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَفَتُجْزِئُ عَنِّي هَذِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتْ: اللهُ رَبِّي . قَالَ: فَمَا دِينُكِ؟ قَالَتْ: الْإِسْلَامُ . قَالَ: فَمَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ قَالَ: فَتُصَلِّينَ الْخَمْسَ، وَتُقِرِّينَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَضَرَبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ظَهْرِهَا وقَالَ: أَعْتِقِيهَا .
فالسؤال عن الصلاة وعن الإقرار بما جاء به صلى الله عليه وسلم، خارج عما أمر به في دعوة المشركين، بل السؤال: من ربك؟ كذلك؛ لأن المشركين إنما دُعوا إلى إفراد الله بالألوهية، لا سؤالهم عما يقرون به من الربوبية.
وهذا يبيّن أن مقام الامتحان مختلف، وأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتحن بما شاء.
وروى أحمد (17945)، والنسائي (3653)، والبيهقي (15272) عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أُمِّي أَوْصَتْ إِلِيَّ أَنْ أَعْتِقْ عَنْهَا رَقَبَةً ، وَإِنَّ عِنْدِي جَارِيَةً سَوْدَاءَ نُوبِيَّةً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ بِهَا ، فَقَالَ: مَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتْ: اللهُ، قَالَ: فَمَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: رَسُولُ اللهِ قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ .
وهذا فيه تقرير الربوبية التي لم يخالف فيها المشركون.
والحاصل:
أن ما جاء في حديث الجارية هو سؤال امتحان واختبار، وهو غير ما عُهد في دعوة الكفار إلى الإيمان، وما علينا إلا التسليم واليقين بصحة سؤاله، وصحة جوابها، وإلا لأنكر عليها، وعلمها، صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام عبد الغني المقدسي رحمه الله: " ومَن أجهلُ جهلاً، وأسخف عقلاً، وأضل سبيلاً ممن يقول إنه لا يجوز أن يقال: أين الله، بعد تصريح صاحب الشريعة بقوله [أين الله]" انتهى من "الاقتصاد في الاعتقاد"، ص89
وقال الذهبي رحمه الله في "العلو" ص28: " وهكذا رأينا كل من يُسأل: أين الله ؟ يبادر بفطرته ويقول: في السماء. ففي الخبر مسألتان:
إحداهما: شرعية قول المسلم أين الله؟
وثانيهما: قول المسؤول: في السماء، فمن أنكر هاتين المسألتين فإنما ينكر على المصطفى صلى الله عليه وسلم" انتهى.
والله أعلم.