أنا نصراني وأريد أن أسأل سؤالا محرجا قليلاً، ولكن في سبيل الحق يجب نقد أي عقيدة كانت، نحن نعلم أن ضمير "نا " الدال على الجماعة في القرآن هو دائما يصف الجلالة بتعظيم، ولكن في سورة الفاتحة يقول القارئ "اهدنا "، والمتكلم هنا ليس رسول الإسلام، وإنما الله، اتمنى الإجابة عن السؤال.
الحمد لله.
أولًا :
ليس لدينا في الإسلام الحق الذي أنزله الله ما يمكن أن يحرجنا ، بل لدى علماء المسلمين ما يجيبون به عن الجهالات التي تأتي بها بعض العقول .
إن الله سبحانه يقول في القرآن ، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا النساء/ 82 .
ثانيًا :
الفاتحة افتتحها الله بالثناء ، وهو : القسم الأول منها ، فقد قال سبحانه : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، وشقها الآخر في سؤال الله تعالى الهداية اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ .
وفي هذه السورة "نعبد" و"نستعين" و"اهدنا" ، وكلها جمع ، وقد تنبه علماء الإسلام لهذا الجمع ، لا من جهة أن الله هو الداعي ، فإن هذا جهل قبيح ، بل من جهة أن العبد الداعي واحد ،
قال ابن القيم : " وأما المسألة التاسعة عشرة: وهي الإتيان بالضمير في قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ ضمير جمع؛ فقد قال بعض الناس في جوابه: إن كلَّ عضو من أعضاء العبد، وكلَّ حاسَّةٍ ظاهرة وباطنة مفتقِرَة إلى هداية خاصة به، فأتى بصيغة الجمع تنزيلًا لكلِّ عضو من أعضائه منزلة المسترشد الطالب لهداه.
وعرضتُ هذا الجواب على شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحَه- فاستركَّه واستضْعَفَه جدًّا ولم يرضه، وهو كما قال، فإن الإنسان اسم للجملة لا لكلِّ جزءٍ من أجزائه وعضو من أعضائه، والقائل إذا قال: "اغفر لي وارحمني واجبرني وأصلحني واهدني"، سائلٌ من الله ما يحصل لجملته ظاهِرِه وباطِنِه، فلا يحتاج أن يستشعر لكل عضو مسألةً تخصه يُفْرِد لها لفظة.
فالصواب أن يقال: هذا مطابق لقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ والإتيان بضمير الجمع في الموضعين أحسن وأفخم، فإن المقام مقام عبودية وافتقار إلى الرب -تعالى- وإقرار بالفاقة إلى عبوديته واستعانته وهدايته، فأتى فيه بصيغة ضمير الجمع، أي: نحن معاشر عبيدك مُقرون لك بالعبودية، وهذا كما يقول العبد للملك المعظَّم شأنه: "نحن عبيدك ومماليكك وتحت طاعتك ولا نخالف أمرك"، فيكون هذا أحسن وأعظم موقعًا عند الملك من أن يقول: "أنا عبدك ومملوكك"، ولهذا لو قال: "أنا وحدي مملوكك"، استدعى مَقْته، فإذا قال: "أنا وكل من في البلد مماليكك وعبيدك وجُنْد لك"؛ كان أعظم وأفخم؛ لأن ذلك يتضمن أن عبيدك كثير جدًّا وأنا واحد منهم، فكلُّنا مشتركون في عبوديتك والاستعانة بك وطلب الهداية منك، فقد تضمَّن ذلك من الثناء على الرب بِسَعَة مجده، وكثرة عبيده، وكثرة سائليه الهداية ما لا يتضمنه لفظَ الإفراد، فتأمله. وإذا تأملت أدعية القرآن رأيت عامتها على هذا النمط نحو: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) [البقرة: 201] ونحو دعاء آخر البقرة، وآخر آل عمران وأولها، وهو أكثر أدعية القرآن "، انتهى من"بدائع الفوائد" (2/ 452).
وقال ابن كثير في "تفسيره" (1/ 135) : " فإن قيل: فما معنى النون في قوله: إياك نعبد وإياك نستعين فإن كانت للجمع فالداعي واحد ، وإن كانت للتعظيم فلا تناسب هذا المقام ؟
وقد أجيب : بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد والمصلي فرد منهم ، ولا سيما إن كان في جماعة أو إمامهم ، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لأجلها ، وتوسط لهم بخير .
ومنهم من قال: يجوز أن تكون للتعظيم ، كأن العبد قيل له : إذا كنت في العبادة فأنت شريف وجاهك عريض فقل : إياك نعبد وإياك نستعين ، وإذا كنت خارج العبادة فلا تقل : نحن ولا فعلنا ، ولو كنت في مائة ألف أو ألف ألف لافتقار الجميع إلى الله عز وجل.
ومنهم من قال : ألطف في التواضع من إياك أعبد ، لما في الثاني من تعظيمه نفسه من جعله نفسه وحده أهلا لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته ، ولا يثني عليه كما يليق به ، والعبادة مقام عظيم يشرف به العبد لانتسابه إلى جناب الله تعالى " انتهى .
ثانيا:
والعجب أنك تجزم بأن هذا كلام الله، لا كلام رسول الإسلام ، فمن أين أتيت بهذا الجزم ؟!
ومن أدعية القرآن:
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ آل عمران/ 8 - 9 .
وقال : الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ آل عمران/ 16 .
وإيضاح ذلك:
أن الفاتحة هي كلام الله حقا، لا شك في ذلك، وأن الله أمر عباده المؤمنين أن يقروا له بالعبودية الخالصة، فيقولوا : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .
ثم أمرهم بعدها أن يطلبوا منه الهداية إلى صراطه المستقيم، الذي سار عليه عباد الله المؤمنين الموحدين، وأن يجنبهم السير في طريق أهل الشرك الذين غضب الله عليهم، وعلى رأسهم اليهود، أو صراط الذين ضلوا عن صراط الله المستقيم، وعلى رأسهم النصارى ، فقال : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ .
فالجمع إذًا راجع لعباد الله المؤمنين ، وهم الذين يسألون رب العالمين الهداية، والمعونة على عبادته .
وبيان ذلك فيما ثبت في الحديث الصحيح ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ ثَلَاثًا غَيْرُ تَمَامٍ، فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي - وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُقَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ رواه مسلم (395).
وانظر الجواب رقم : (209022).
فالخلاصة :
أن قول المؤمن ( اهدنا ) لأنه منتظم في جملة أهل الإيمان ، ونحن ندعوك أن تنتظم في سلك أهل الإيمان ، وأن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأن النبيين حق؛ فذلك خير لك من محاولة ( الإحراج ) ، ومسالك الصبيان والصغار، وأهل البطالة الفارغين.
والله أعلم.