قال الله تعالى في سورة الأعراف (وَ لقَد أرسَلنَا نُوحًا إلَى قَومِه)، ثم قال تعالى: (وإلَى عَادٍ أخَاهُم هُودًا). سؤالي هو: لماذا مع سيدنا نوح استعملت عبارة "قومه" و ليس "أخاهم" مثل سيدنا هودا؟ أي ماهي دلالة قومه وأخاهم في كلتا الآيتين؟
الحمد لله.
قال "الرازي" في "تفسيره" (25/ 54): "قال الله تعالى في نوح: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) [العنكبوت: 14] قدم نوحًا في الذكر، وعرف القوم بالإضافة إليه، وكذلك في إبراهيم ولوط.
وهاهنا ذكر القوم أولًا وأضاف إليهم (أخاهم شعيبًا).
فنقول: الأصل في جميع المواضع أن يذكر القوم، ثم يذكر رسولهم، لأن المرسل لا يبعث رسولًا إلى غير معين، وإنما يحصل قوم، أو شخص، يحتاجون إلى إنباء من المرسل فيرسل إليهم من يختاره.
غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص، ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها، فعرفوا بالنبي فقيل قوم نوح وقوم لوط، وأما قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله وقال الله:
(وإلى مدين أخاهم شعيبًا)، وقال: (وإلى عاد أخاهم هودًا) [الأعراف: 65]" انتهى.
ومن باب "الفائدة" فإن معنى (أخاهم): "أنه منهم نسبًا وهو قول للنسابين، ومن لا يقول به يقول إن المراد: صاحبهم، وواحد في جملتهم، كما تقول يا أخا العرب.
وبينٌ حكمة كون النبيّ صلى الله عليه وسلم يبعث من قومه لأنهم أفهم لقوله من قول غيره، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله" انتهى من "حاشية الشهاب" (4/ 180).
ومما سبق يُعلَم أن ذكر "الإخوة" يتعلق بسياق الآيات، وليس معناه نفي وصف "الأخوة" بين "نوح" عليه السلام، و"قومه"؛ فإنه أخوهم في النسب، أو صاحبهم، أو رجل من قومه، يعرفون نسبه، وحاله.
ولأجل ذلك ورد ذلك الوصف في سياق آخر، لنوح عليه السلام مع قومه. قال الله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ الشعراء/105-108.
وهكذا ورد ذكر سائر الأنبياء مع قومهم في هذه السورة، سورة الشعراء:
قال الله تعالى في شأن نبيه هود عليه السلام مع قومه: كَذَّبَتۡ عَادٌ ٱلۡمُرۡسَلِينَ * إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ الشعراء/ ١٢٣-١٢٤.
وفي قوم صالح عليه السلام، قال الله تعالى: كَذَّبَتۡ ثَمُودُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ * إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ صَٰلِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ الشعراء/١٤١-١٤٢.
كَذَّبَتۡ قَوۡمُ لُوطٍ ٱلۡمُرۡسَلِينَ * إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ الشعراء/١٦٠-١٦١.
لكن الذين وردوا في سياق واحد مع غيرهم، ثم خولف في صفتهم: هم أصحاب الأيكة الذين أرسل إليهم شعيب عليه السلام؛ قال الله تعالى:
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ الشعراء/176-177
قال العلامة المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:
"وغايةُ ما يفيدُه القرآنُ: أن اللَّهَ بعثَ نبيَّه شعيبًا إلى أهلِ مدينَ. وذكر اللهُ في آياتٍ أُخْرَى متعددةٍ - كما سيأتي في سورةِ الحجراتِ، وفي سورةِ الشعراء، وفي سورةِ ص وغيرِ ذلك -: أن شعيبًا أرسلَ أيضًا إلى أصحابِ الأيكةِ، كما سيأتِي في قولِه: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) [الشعراء/آية 176].
والعلماءُ مختلفونَ: هل أصحابُ الأيكةِ هم مَدْيَنُ أنفسُهم، فيكون شعيبٌ أُرْسِلَ إلى أُمَّةٍ واحدةٍ، أو مدينُ أمةٌ وأصحابُ الأيكةِ أمةٌ أخرى، فيكون شعيبٌ قد أُرْسِلَ إلى أُمَّتَيْنِ؟
هذا خلافٌ معروفٌ بَيْنَ العلماءِ، وأكثرُ أهلِ العلمِ على أنهم أمةٌ واحدةٌ كانوا يعبدونَ أيكةً، أي: شجرًا مُلْتَفًّا، وأن اللَّهَ سماهم مرةً بنسبهم (مدين)، ومرةً أضافهم إلى الأيكةِ التي يعبدونَها.
وجزمَ بصحةِ هذا ابنُ كثيرٍ في تاريخِه وتفسيرِه.
وَمِمَّنِ اشتهر عنه أنهم أُمَّتَانِ قتادةُ وجماعةٌ، وهو خلافٌ معروفٌ.
والذين قالوا: إنهما أُمَّتَانِ قالوا: في (مدين) قال: إنه أَخُوهُمْ، حيث قال {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: آية 85].
أما أصحابُ الأيكةِ فلم يَقُلْ: إنه أخوهم بل قال: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ [الشعراء: الآيتانِ 176، 177] ولم يقل: أخوهم شعيبٌ.
وَأُجِيبَ عن هذا: بأنه لَمَّا ذَكَرَ مَدْيَنَ، ذَكَرَ الجدَّ الذي يشملُ القبيلةَ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا شعيبٌ، ذكر أنه أخوهم من النسبِ.
أما قولُه: أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ: فمعناه: أنهم يعبدونَها، وَلَمَّا ذَكَرَهُمْ في مقامِ الشركِ وعبادةِ غيرِ اللَّهِ، لم يُدْخِلْ معهم شعيبًا في ذلك، وهم أمةٌ واحدةٌ. هكذا قاله بعضُهم. وَاللَّهُ أعلمُ." انتهى، من "العذب النمير" (3/572-573).
والحاصل:
أن الآيتين المذكورتين: لا إشكال فيهما، وإنما حصل التنويع بحسب السياق الذي ذكر القصة.
وأما ذكر شعيب عليه السلام مع "أصحاب الأيكة"، فقد سبق ذكر النكتة فيه.
والله أعلم.