هل يمكن شرح قول ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى:(صراط الذين أنعمت عليهم)، حيث قال رضي الله عنه: هم قوم موسى وعيسى عليهما السلام قبل أن غيروا دينهم.
الحمد لله.
أولًا :
المقصود بالصراط المستقيم في سورة "الفاتحة" في قوله سبحانه: اهدنا الصراط المستقيم الفاتحة/6؛ أي: طريق الهداية والاستقامة ، وقد فسره الله تعالى بقوله: صراط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ الفاتحة/7.
قال الإمام أبو الحسن الواحدي، رحمه الله:
"إنما وصف الدين الحق بأنه الصراط المستقيم ؛ لأنه يؤدي إلى الغرض المطلوب من رضاء الله تعالى، والخلود في النعيم المقيم ، كما أن الصراط المستقيم يؤديك إلى مقصودك " انتهى من"التفسير البسيط" (1/530).
ومن أعظم مقاصد العبد أن ينجو على صراط الآخرة.
وقد قال الإمام "ابن كثير" في "التفسير" (1/137): " والهداية هاهنا : الإرشاد والتوفيق، وقد تُعدّى الهداية بنفسها كما هنا اهدنا الصراط المستقيم ، فتضمن معنى ألهمنا ، أو وفقنا ، أو ارزقنا ، أو اعطنا ..
ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط ، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد ، وهو المتابعة لله وللرسول"، انتهى .
وقال "ابن القيم" : " قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ؛ فإنه لما تقرَّر عند المخاطَبين أن لله صراطًا مستقيمًا هدى إليه أنبياءه ورسلَه ، وكان المخاطَبُ -سبحانه- المسؤول منه هدايته، عالمًا به ، دخلت اللام عليه ، فقال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" انتهى من "بدائع الفوائد" (2/ 413).
ثانيا:
روى الإمام "الطبري" في "تفسيره" (1/ 177) : عن ابن عباس: " صراط الذين أنعمت عليهم [الفاتحة: 7] يقول: طريق من أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك ، من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين أطاعوك وعبدوك "، انتهى.
والصحيح أن الآية عامَّة في كل من أنعم الله عليهم ويشمل هذا من آمن بموسى وعيسى عليهما السلام ولم يغيروا أو يبدلوا ، قال "الراغب الأصفهاني" في "تفسيره" (1/ 65) : " فالوجه : أن يجري ذلك على العموم في كل ما صح أن يكون نعمة بدلالة قوله تعالى: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ، وهؤلاء المنعم عليهم : المعنيون بقوله تعالى : الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ هم المذكورين بقوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ"، انتهى .
والراجح: أن الآية عامَّة في كل من أنعم الله عليهم ، قال "الراغب الأصفهاني" في "تفسيره" (1/ 65): " فالوجه : أن يُجرى ذلك على العموم في كل ما صح أن يكون نعمة ، بدلالة قوله تعالى: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ، وهؤلاء المنعم عليهم ، المعنيون بقوله تعالى : الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، هم المذكورون بقوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ"، انتهى .
وقال "القرطبي" : " واختلف الناس في المنعم عليهم:
فقال الجمهور من المفسرين : إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) [النساء: 69]؛ فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم ، وهو المطلوب في آية (الحمدُ) .
وجميع ما قيل: إلى هذا يرجع ، فلا معنى لتعديد الأقوال. والله المستعان"، انتهى من"الجامع لأحكام القرآن" (1/ 149).
وانظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (2/406).
ولذلك قال "الطبري": " والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي، أعني: اهدنا الصراط المستقيم [الفاتحة: 6] أن يكون معنيًّا به : وفقنا للثبات على ما ارتضيته ، ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك ، من قول وعمل ؛ وذلك هو الصراط المستقيم ، لأن من وُفق لما وفق له من أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء ، فقد وفق للإسلام ، وتصديق الرسل ، والتمسك بالكتاب ، والعمل بما أمر الله به ، والانزجار عما زجره عنه ، واتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهاج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وكل عبد لله صالح . وكل ذلك من الصراط المستقيم "، انتهى من "جامع البيان"(1/171).
وروى عن ابن عباس قوله : " قال جبريل لمحمد : قل يا محمد اهدنا الصراط المستقيم [الفاتحة: 6] ، يقول : ألهمنا الطريق الهادي".
وعلق على ذلك قائلًا : "وإلهامه إياه ذلك هو توفيقه له، كالذي قلنا في تأويله.
ومعناه نظير معنى قوله : وإياك نستعين [الفاتحة: 5] ، في أنه مسألة العبد ربه التوفيق للثبات على العمل بطاعته، وإصابة الحق والصواب فيما أمره به ونهاه عنه، فيما يَستقبل من عمره، دون ما قد مضى من أعماله، وتقضى فيما سلف من عمره ، كما في قوله: وإياك نستعين [الفاتحة: 5] مسألة منه ربه المعونة على أداء ما قد كلفه من طاعته فيما بقي من عمره.
فكان معنى الكلام : اللهم إياك نعبد وحدك لا شريك لك ، مخلصين لك العبادة دون ما سواك من الآلهة والأوثان ، فأعنا على عبادتك ، ووفقنا لما وفقت له من أنعمت عليه من أنبيائك وأهل طاعتك من السبيل والمنهاج"، انتهى من"جامع البيان" (1/166).
ثالثًا :
ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله تعالى: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ الفاتحة /7: أنه قال: " هم قوم موسى وعيسى قبل أن يغيروا نعم الله عز وجل".
انظر : "الكشف والبيان" (2/ 456)، و"التفسير البسيط" (1/ 499).
وقد سبق أنَّ الصراط المستقيم هو طريق من أنعم الله عليهم من النبيين ومن تبعهم ، سواءٌ أكانوا من هذه الأمة أو من غيرها من الأمم .
ومن هؤلاء أتباع موسى وعيسى عليهما السلام قبل أن يغيروا ، ويتركوا دين موسى وعيسى عليهما السلام ، ويكفروا بالله سبحانه وتعالى ؛ فالمؤمنون منهم كانوا في زمانهم هم أهل الصراط المستقيم. وهكذا المؤمنون في كل زمان.
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم : كان أهل الإيمان به، هم أهل الصراط المستقيم، وعلى رأس هؤلاء ، بعد النبيين: أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما.
وسمي الصراط المستقيم بهم، وإنما هم أهله: تجوزا.
قال الإمام القاضي أبو محمد ابن عطية رحمه الله:
" وحكى مكي وغيره ، عن فرقة من المفسرين : أن المنعم عليهم : مؤمنو بني إسرائيل، بدليل قوله تعالى: ( يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) [البقرة: 40، 47، 122] .
وقال ابن عباس: المنعم عليهم أصحاب موسى قبل أن يبدلوا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا والذي قبله سواء.
وقال قتادة بن دعامة: المنعم عليهم الأنبياء خاصة.
وحكى مكي عن أبي العالية أنه قال: المنعم عليهم : محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد تقدم ما حكاه عنه الطبري، من أنه فسر الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بذلك.
وعلى ما حكى مكي – يعني: القول الأخير الذي حكاه - : ينتقض الأول، ويكون الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ طريق محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وهذا أقوى في المعنى، لأن تسمية أشخاصهم طريقا تجوز" انتهى من "المحرر الوجيز"(1/75).
والله أعلم.