نريد رداً على من يقول بأنه من صفات ذكر الله قول (آه)، ويستدل بقول الله تعالى: (إِنَّ إِبراهيمَ لَحَليمٌ أَوّاهٌ مُنيبٌ) هود/٧٥، ويقول: إن (أواه) في كتب التفسير، بمعنى أنه كان يكثر من قول آه آه، وهل كلمة إل في قول الله تعالى: (لا يَرقُبونَ في مُؤمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ المُعتَدونَ) التوبة/١٠، تعني الله تعالى، كما فسرها بعض المفسرين؟
الحمد لله.
أولًا :
قوله تعالى: إِنَّ إِبراهيمَ لَحَليمٌ أَوّاهٌ مُنيبٌ التوبة/114، اختلف العلماء في المراد بقوله (أواه) على أقوال ، وهي :
1- الدَّعَّاء، (كثير الدعاء).
2- وقال آخرون: بل هو الرحيم.
3- وقال آخرون: بل هو الموقن.
4- وقال آخرون: هي كلمة بالحبشية معناها: المؤمن.
5- وقال آخرون: هو المسبح الكثير الذكر لله.
6- وقال آخرون: هو الذي يكثر تلاوة القرآن.
7- وقال آخرون: هو من التأوه.
وفسَّر السلف سبب التأوه - على القول به - وهو : عن كعب، قال: "الأواه: إذا ذكر النار قال: أوه".
8- وقال آخرون: معناه أنه فقيه.
9- وقال آخرون: هو المتضرع الخاشع.
قال "الطبري" : "وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب: القول الذي قاله عبد الله بن مسعود الذي رواه عنه زر ؛ أنه الدعَّاء .. ".
انظر: "تفسير الطبري" (12/ 34- 44)، "تفسير الثعلبي" (14/ 100)، وانظر أقوالًا أخرى في " تفسير القرطبي" (8/275).
وقال العلامة الطاهر ابن عاشور، رحمه الله: " وجملة: إن إبراهيم لأواه حليم استئناف ثناء على إبراهيم. ولأواه فسر بمعان ترجع إلى الشفقة إما على النفس فتفيد الضراعة إلى الله والاستغفار، وإما على الناس فتفيد الرحمة بهم والدعاء لهم.
ولفظ لأواه مثال مبالغة: الذي يكثر قول أوه بلغاته الثلاث عشرة التي عدها في القاموس ، وأشهرها أوه بفتح الهمزة وواو مفتوحة مشددة وهاء ساكنة. قال المرادي في شرح التسهيل : وهذه أشهر لغاتها. وهي اسم فعل مضارع بمعنى أتوجع لإنشاء التوجع، لكن الوصف ب لأواه كناية عن الرأفة ورقة القلب والتضرع حين يوصف به من ليس به وجع. والفعل المشتق منه (أواه) حقه أن يكون ثلاثيا لأن أمثلة المبالغة تصاغ من الثلاثي.
وقد اختلف في استعمال فعل ثلاثي له، فأثبته قطرب وأنكره عليه غيره من النحاة.
وإتباع (لأواه) بوصف (حليم) هنا وفي آيات كثيرة قرينة على الكناية وإيذان بمثار التأوه عنده.
والحليم: صاحب الحلم. والحلم- بكسر الحاء-: صفة في النفس وهي رجاحة العقل وثباتة ورصانة وتباعد عن العدوان. فهو صفة تقتضي هذه الأمور، ويجمعها عدم القسوة. ولا تنافي الانتصار للحق لكن بدون تجاوز للقدر المشروع في الشرائع أو عند ذوي العقول.
قال:
حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب". انتهى من "التحرير والتنوير" (11/46).
والحاصل:
أن جماهير أهل العلم لم يذكروا حقيقة "التأوه" في تأويل "الأواه" في وصف إبراهيم عليه السلام. ومن ذكر أنه من قوله "أوَّه" ، أو نحو ذلك، فإنما ذكره في السياق الذي تحسن فيه، وهو بيان شدة الخوف والشفقة من النار، وعذاب رب العالمين، فكلما ذكرت النار عنده، فرق، واشتدت خشيته، فقال: "أوه"؛ لا أنه كان يقوله هكذا مطلقا، من غير سبب، أو يتقرب إلى الله باللهج بها؛ فالكلمة في نفسها ليست ذكرا لله، ولا ثناء عليه ، ولذلك لم يكن ذلك من حاله عليه السلام، ولا من حال نبينا صلى الله عليه وسلم ولا من مقاله، ولا فعله أحد من السابقين بإحسان. وهذا يرد القول بأن إبراهيم عليه السلام كان يذكر الله بلفظ (آه)، بل ذلك كله من سوء الفهم، ومن القول على الله بغير علم.
ثانيًا :
لا يجوز ذكر الله بلفظ (آه) ، وقد أفتت اللجنة الدائمة بذلك ، قالوا : " لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه أنهم كانوا يجلسون حلقات للذكر بعد الفرائض، أو في أوقات معينة ، ولا أنهم كانوا يذكرون جماعة بصوت واحد ، ولا باسم مفرد ، ولا كلمة: (آه) ولا بحركات وترنحات معينة ولا عرف عنهم أنهم يبسطون ثوبا أبيض ولا أسود بينهم في أذكارهم وإنما كانوا يجتمعون لصلاة الجماعة ولتلاوة كتاب الله وتدبره وتفهم معانيه وأسراره".
انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة - 1" (7/ 354).
وقالوا عن سؤال وجه إليهم عن بعض الطرق الصوفية، "ومن ذلك ذكرهم بكلمة (هو) وكلمة (آه) وليستا من أسماء الله، بل الأولى ضمير الغائب، والثانية كلمة توجع، فالذكر بهما من البدع المنكرة".
انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة - 1"(2/303).
وممن أفتى بعدم جواز الذكر بلفظ (آه) الشيخ محمد بخيت المطيعي ، كما في "فتاوى دار الإفتاء المصرية" (7/ 314، بترقيم الشاملة آليا).
ونقل الغماري عنه ، كما "المداوي لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي" (4/ 37) أنه "سئل عن الذكر بهذا الاسم ، فشرع في الجواب في إبطاله ، وإبطال كون آه اسما من أسماء اللَّه تعالى" ، وكأن الغماري يوافقه في ذلك .
وقال الشيخ عطية صقر رحمه الله كما في "فتاوى دار الإفتاء المصرية" (9/ 368)، بترقيم الشاملة آليا)" : "وبصرف النظر عن حصر أسماء الله، وعن اختلاف العلماء في جواز ذكره بالاسم المفرد- : فإن لفظ "آه " لم يثبت بسند صحيح أنه اسم من أسمائه تعالى.
وعليه؛ فلا يجوز الذكر به، على ما رآه جمهور الفقهاء.
وما يروى من أن النبي صلى الله عليه وسلم زار مريضا كان يئن، وأن أصحابه عليه الصلاة والسلام نهوه عن الأنين، وأنه قال لهم "دعوه يئن ، فإنه يذكر اسما من أسمائه تعالى" : لم يرد في حديث صحيح ولا حسن كما قرره الثقات، وما قيل في بعض الحواشي من أن لفظ "آه " الاسم الأعظم لا سند له.
وقد أفتى شيخ الجامع الأزهر المرحوم الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوى فى هذه المسألة ، فقال ما نصه: إن هذا اللفظ المسئول عنه "آه " بفتح الهمزة وسكون الهاء -ليس من الكلمات العربية في شيء، بل هو لفظ مهمل لا معنى له مطلقا. وإن كان بالمد فهو إنما يدل في اللغة العربية على التوجع، وليس من أسماء الذوات، فضلا عن أن يكون من أسماء الله الحسنى التي أمرنا أن ندعوه بها. ..
إلى أن قال: ولا يجوز لنا التعبد بشيء لم يرد الشرع بجواز التعبد به.
وفى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" "مجلة الأزهر-المجلد الثالث سنة 1351 هـ ص 499]"، انتهى .
وكان الشيخ محمود حجازي أحد رؤساء الشاذلية وتلميذه الشيخ المحروقي يدافع عن هذه الكلمة بشدة، حتى استفتى مفتي الديار المصرية الشيخ محمد بخيت المطيعي رحمه الله، فأفتاه بتحريم الذكر بها، فرجع الشيخ محمود حجازي عن القول بها، وألّف رسالة سماها: "التفصيل الواضح في الرد على تغيير أهل الطريق الفاضح"، وعقد لذلك فيها بابًا فقال: "باب رفض اسمية آه لله تعالى".
وينظر للفائدة، حول ذكر الله بالاسم المفرد جواب السؤال رقم:(9389)، (91305)، (126336).
ثالثًا :
أما قوله تعالى : لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً التوبة/10، فللعلماء في تفسير (إل) أقوال:
1- أنه الله سبحانه وبحمده .
2- وقال آخرون: الإل: القرابة.
3- وقال آخرون: معناه: الحِلف.
قال الطبري: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المشركين الذين أمر نبيه والمؤمنين بقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، وحصرهم والقعود لهم على كل مرصد: أنهم لو ظهروا على المؤمنين لم يرقبوا فيهم إلّا، والإلّ: اسم يشتمل على معان ثلاثة: وهي العهد والعقد، والحلف، والقرابة، وهو أيضا بمعنى: الله.
فإذ كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة، ولم يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى، فالصواب أن يعم ذلك كما عم بها جل ثناؤه معانيها الثلاثة، فيقال: لا يرقبون في مؤمنٍ: اللهَ، ولا قرابةً، ولا عهدا، ولا ميثاقا"، انتهى من"تفسير الطبري" (11/358).
والله أعلم.