ما صحة كون الروم ينتسبون إلى إسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام؟ وهل حديث : (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ...الخ) الذي رواه مسلم، حديث صحيح؟ أم لأهل العلم كلام فيه ولا يثبت؟
الحمد لله.
أما كون الروم ينتسبون إلى إسحاق بن إبراهيم، فهذا هو المنصوص عليه في كثير من كتب التاريخ والأنساب، وأكثرهم ينصون على أنهم ينتسبون إلى العيص بن إسحاق كما تجده عند الطبري في تاريخه (1/577)، وعند ياقوت الحموي في "معجم البلدان" (3/97)، وابن كثير في "البداية والنهاية" (19/106)، فإنه قال: "والروم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، عليه الصلاة والسلام".
وكلام شراح الحديث يدل على أنهم لا يختلفون في أن الروم الموجودين، هم ممن عناهم النبي صلى الله عليه وسلم ببني إسحاق، لكن لا يقتضي ذلك أنه ليس الروم فقط هم بنو إسحاق، بل يحتمل أن يكون له نسل غيرهم كما أشار إليه بعض شراح الحديث، فيما سيأتي بإذن الله.
وأما الحديث الذي أشرتَ إليه، فهو جزء من حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه" (2920)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ . قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ، فَإِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا، فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ، قَالُوا: لَاإِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا الَّذِي فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّانِيَة: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ . فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الْآخَرُ. ثُمَّ يَقُولُوا الثَّالِثَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ. فَيُفَرَّجُ لَهُمْ، فَيَدْخُلُوهَا فَيَغْنَمُوا ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْمَغَانِمَ إِذْ جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ، فَقَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ، فَيَتْرُكُونَ كُلَّ شَيْءٍ وَيَرْجِعُونَ.
وهو كما ترى مخرج في صحيح مسلم، وتابعه عليه أبو عوانة في مستخرجه، ولم ينتقده أحد من العلماء، فالحديث صحيح ثابت.
لكن استشكل بعض العلماء هذه الجملة وهي قوله: (سبعون ألفاً من بني إسحاق) ووجه الإشكال أن الوصف المذكور للمدينة التي تفتح، ينطبق على أعظم العواصم للروم؛ كالقسطنطينية ـ حسب تفسير أكثر العلماء ـ وقيل بل على روما أو إيطاليا، أو البندقية، وهذه كلها من أخص مدن الروم، والروم هم من بني إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، فكيف يكون فتح القسطنطينية على أيديهم؟
وقد أشار إلى هذا الإشكال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (8/464) فإنه قال: " كَذَا هُوَ فِي سائر الأُصُول [ أي أصول نسخ صَحِيح مُسْلِم ]: (مِنْ بَنِي إِسْحَاق).: قَالَ بَعْضهمْ : الْمَعْرُوف الْمَحْفُوظ مِنْ (بَنِي إِسْمَاعِيل)، وَهُوَ الَّذِي يَدُلّ عَلَيْهِ الْحَدِيث وَسِيَاقه؛ لأنَّهُ إِنَّمَا يعني العرب والمسلمين.. اهـ .
لكن هذا الاعتراض من صاحبه غير متجه لعدة أمور نبه عليها المحققون من أهل الحديث؛ فمن ذلك:
فقول الروم النصارى للمسلمين : (خلّوا بيننا وبين الذين سبوا منا) روي على وجهين (سُبوا) و(سَبَوْا ) قال النووي : " قُلْت: كِلَاهُمَا صَوَاب، لِأَنَّهُمْ سُبُوا أَوَّلًا، ثُمَّ سَبَوْا الْكُفَّار، وَهَذَا مَوْجُود فِي زَمَاننَا، بَلْ مُعْظَم عَسَاكِر الْإِسْلَام فِي بِلَاد الشَّام وَمِصْر سُبُوا، ثُمَّ هُمْ الْيَوْم بِحَمْدِ اللَّه يَسْبُونَ الْكُفَّار، وَقَدْ سَبَوْهُمْ فِي زَمَاننَا مِرَارًا كَثِيرَة، يَسْبُونَ فِي الْمَرَّة الْوَاحِدَة مِنْ الْكُفَّار أُلُوفًا، وَلِلَّهِ الْحَمْد عَلَى إِظْهَار الْإِسْلَام وَإِعْزَازه اهـ .
فإذا كان ذلك واقعا من عصر الإمام النووي، فكيف بعصرنا الحاضر وقد كثر المسلمون من الروم بغير سبي ولا قتال، بل بظهور قوة هذا الدين وانتصاره بالحجة والبرهان، وإن لم ينتصر بالسيف والسنان، حتى ظهر في الغرب دعوات تحذر من تنامي المد الإسلامي في أوروبا، وتحشد ما تستطيع لإيقافه وصد الناس عنه، والله غالب على أمره ومتم نوره ولو كره الكافرون.
وبهذا يعلم أن هذه اللفظة ثابتة من جهة الإسناد، ومستقيمة من جهة المتن، وأما سائر الحديث فلا خلاف في ثبوته.
والله أعلم.