ما حكم ما يفعله الناس في يوم عاشوراء من الكحل، والاغتسال، والحناء والمصافحة، وطبخ الحبوب وإظهار السرور، وغير ذلك ... هل ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح؟ أم لا؟ وإذا لم يرد حديث صحيح في شيء من ذلك فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا؟ وما تفعله الطائفة الأخرى من المآتم والحزن والعطش، وغير ذلك من الندب والنياحة، وشق الجيوب، هل لذلك أصل؟ أم لا؟
الحمد لله.
سُئِلَ شَيْخُ الإِسْلامِ هذا السؤال فأجاب بقوله:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَلا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لا الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ، وَلا غَيْرِهِمْ. وَلا رَوَى أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، لا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلا الصَّحَابَةِ، وَلا التَّابِعِينَ، لا صَحِيحًا وَلا ضَعِيفًا، لا فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ، وَلا فِي السُّنَنِ، وَلا الْمَسَانِيدِ، وَلا يُعْرَفُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ عَلَى عَهْدِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ.
وَلَكِنْ رَوَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ مِثْلَ مَا رَوَوْا أَنَّ مَنْ اكْتَحَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَرْمَدْ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ، وَمَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَمْرَضْ ذَلِكَ الْعَامِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
وَرَوَوْا فَضَائِلَ فِي صَلاةِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَرَوَوْا أَنَّ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ تَوْبَةَ آدَمَ، وَاسْتِوَاءَ السَّفِينَةِ عَلَى الْجُودِيِّ، وَرَدَّ يُوسُفَ عَلَى يَعْقُوبَ، وَإِنْجَاءَ إبْرَاهِيمَ مِنْ النَّارِ، وَفِدَاءَ الذَّبِيحِ بِالْكَبْشِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
رَوَوْا فِي حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ مَكْذُوبٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ السَّنَةِ.
.. (ثم تحدّث شيخ الإسلام رحمه الله عن طائفتين ضالتين كانتا في الكوفة بأرض العراق تتخذان من عاشوراء عيدا لبدعتيهما). طَائِفَة رَافِضَة يُظْهِرُونَ مُوَالاةَ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ إمَّا مَلاحِدَةٌ زَنَادِقَةٌ، وَإِمَّا جُهَّالٌ، وَأَصْحَابُ هَوًى. وَطَائِفَةٌ نَاصِبَةٌ تَبْغُضُ عَلِيًّا، وَأَصْحَابَهُ، لِمَا جَرَى مِنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ مَا جَرَى.
قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: سَيَكُونُ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ. فَكَانَ الْكَذَّابُ هُوَ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيَّ، وَكَانَ يُظْهِرُ مُوَالاةَ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَالانْتِصَارَ لَهُمْ، وَقَتَلَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ أَمِيرَ الْعِرَاقِ الَّذِي جَهَّزَ السَّرِيَّةَ الَّتِي قَتَلَتْ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنهما ثُمَّ إنَّهُ أَظْهَرَ الْكَذِبَ، وَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام يَنْزِلُ عَلَيْهِ، حَتَّى قَالُوا لابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. قَالُوا لأَحَدِهِمَا: إنَّ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، فَقَالَ صَدَقَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. وَقَالُوا لِلآخَرِ: إنَّ الْمُخْتَارَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ فَقَالَ صَدَقَ: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ. وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَهُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ، وَكَانَ: مُنْحَرِفًا عَنْ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ، فَكَانَ هَذَا مِنْ النَّوَاصِبِ، وَالأَوَّلُ مِنْ الرَّوَافِضِ، وَهَذَا الرَّافِضِيُّ كَانَ: أَعْظَمَ كَذِبًا وَافْتِرَاءً، وَإِلْحَادًا فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ ادَّعَى النُّبُوَّةَ..
وَكَانَ فِي الْكُوفَةِ بَيْنَ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ فِتَنٌ وَقِتَالٌ فَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما يَوْمَ عَاشُورَاءَ قَتَلَتْهُ الطَّائِفَةُ الظَّالِمَةُ الْبَاغِيَةُ، وَأَكْرَمَ اللَّهُ الْحُسَيْنَ بِالشَّهَادَةِ، كَمَا أَكْرَمَ بِهَا مَنْ أَكْرَمَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. أَكْرَمَ بِهَا حَمْزَةَ وَجَعْفَرَ، وَأَبَاهُ عَلِيًّا، وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ مِمَّا رَفَعَ اللَّهُ بِهَا مَنْزِلَتَهُ، وَأَعْلَى دَرَجَتَهُ، فَإِنَّهُ هُوَ وَأَخُوهُ الْحَسَنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالْمَنَازِلُ الْعَالِيَةُ لا تُنَالُ إلاّ بِالْبَلاءِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً فَقَالَ: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ زِيدَ فِي بَلائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَلا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
فَكَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ قَدْ سَبَقَ لَهُمَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مَا سَبَقَ، مِنْ الْمَنْزِلَةِ الْعَالِيَةِ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ حَصَلَ لَهُمَا مِنْ الْبَلاءِ مَا حَصَلَ لِسَلَفِهِمَا الطَّيِّبِ، فَإِنَّهُمَا وُلِدَا فِي عِزِّ الإِسْلامِ، وَتَرَبَّيَا فِي عِزٍّ وَكَرَامَةٍ، وَالْمُسْلِمُونَ يُعَظِّمُونَهُمَا وَيُكْرِمُونَهُمَا، وَمَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَسْتَكْمِلا مِنْ التَّمْيِيزِ، فَكَانَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا أَنْ ابْتَلاهُمَا بِمَا يُلْحِقُهُمَا بِأَهْلِ بَيْتِهِمَا، كَمَا اُبْتُلِيَ مَنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمَا، فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَفْضَلُ مِنْهُمَا، وَقَدْ قُتِلَ شَهِيدًا وَكَانَ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ مِمَّا ثَارَتْ بِهِ الْفِتَنُ بَيْنَ النَّاسِ.
كَمَا كَانَ مَقْتَلُ عُثْمَانَ رضي الله عنه مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ الَّتِي أَوْجَبَتْ الْفِتَنَ بَيْنَ النَّاسِ، وَبِسَبَبِهِ تَفَرَّقَتْ الأُمَّةُ إلَيَّ الْيَوْمِ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ثَلاثٌ مَنْ نَجَا مِنْهُنَّ فَقَدْ نَجَا: مَوْتِي، وَقَتْلُ خَلِيفَةٍ مُصْطَبِرٍ وَالدَّجَّالُ..
(ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله طائفة من سيرة الحسن وعدله إلى أن قال: ثم إنَّهُ مَاتَ وَصَارَ إلَى كَرَامَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ، وَقَامَتْ طَوَائِفُ كَاتَبُوا الْحُسَيْنَ وَوَعَدُوهُ بِالنَّصْرِ وَالْمُعَاوَنَةِ إذَا قَامَ بِالأَمْرِ، وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، بَلْ لَمَّا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ ابْنَ عَمِّهِ أَخْلَفُوا وَعْدَهُ، وَنَقَضُوا عَهْدَهُ، وَأَعَانُوا عَلَيْهِ مَنْ وَعَدُوهُ أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْهُ، وَيُقَاتِلُوهُ مَعَهُ. وَكَانَ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَحَبَّةِ لِلْحُسَيْنِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا أَشَارُوا عَلَيْهِ بِأَنْ لا يَذْهَبَ إلَيْهِمْ، وَلا يَقْبَلَ مِنْهُمْ، وَرَأَوْا أَنَّ خُرُوجَهُ إلَيْهِمْ لَيْسَ بِمَصْلَحَةٍ، وَلا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَسُرُّ، وَكَانَ الأَمْرُ كَمَا قَالُوا، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. فَلَمَّا خَرَجَ الْحُسَيْنُ - رضي الله عنه - وَرَأَى أَنَّ الأُمُورَ قَدْ تَغَيَّرَتْ، طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَدْعُوهُ يَرْجِعُ، أَوْ يَلْحَقَ بِبَعْضِ الثُّغُورِ، أَوْ يَلْحَقَ بِابْنِ عَمِّهِ يَزِيدَ، فَمَنَعُوهُ هَذَا وَهَذَا. حَتَّى يَسْتَأْسِرَ، وَقَاتَلُوهُ فَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ. وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ مَعَهُ، مَظْلُومًا شَهِيدًا شَهَادَةً أَكْرَمُهُ اللَّهُ بِهَا وَأَلْحَقَهُ بِأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ. وَأَهَانَ بِهَا مَنْ ظَلَمَهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ، وَأَوْجَبَ ذَلِكَ شَرًّا بَيْنَ النَّاسِ.
فَصَارَتْ طَائِفَةٌ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ: إمَّا مُلْحِدَةٌ مُنَافِقَةٌ، وَإِمَّا ضَالَّةٌ غَاوِيَةٌ، تُظْهِرُ مُوَالاتَهُ، وَمُوَالاةَ أَهْلِ بَيْتِهِ تَتَّخِذُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ مَأْتَمٍ وَحُزْنٍ وَنِيَاحَةٍ، وَتُظْهِرُ فِيهِ شِعَارَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ لَطْمِ الْخُدُودِ، وَشَقِّ الْجُيُوبِ، وَالتَّعَزِّي بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَاَلَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فِي الْمُصِيبَةِ - إذَا كَانَتْ جَدِيدَةً - إنَّمَا هُوَ الصَّبْرُ وَالاحْتِسَابُ وَالاسْتِرْجَاعُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ مِنَّا مِنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ الصَّالِقَةِ، وَالْحَالِقَةِ، وَالشَّاقَّةِ. وَقَالَ: النَّائِحَةُ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ.
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهَا الْحُسَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ رَجُلٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ، فَيَذْكُرُ مُصِيبَتَهُ وَإِنْ قَدِمَتْ، فَيُحْدِثُ لَهَا اسْتِرْجَاعًا إلاّ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ الأَجْرِ مِثْلَ أَجْرِهِ يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا. وَهَذَا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ مُصِيبَةَ الْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِ إذَا ذُكِرَتْ بَعْدَ طُولِ الْعَهْدِ، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَرْجِعَ فِيهَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِيُعْطَى مِنْ الأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ الْمُصَابِ يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا.
وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالصَّبْرِ وَالاحْتِسَابِ عِنْدَ حَدَثَانِ الْعَهْدِ بِالْمُصِيبَةِ، فَكَيْفَ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ، فَكَانَ مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لأَهْلِ الضَّلالِ وَالْغَيِّ مِنْ اتِّخَاذِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَأْتَمًا، وَمَا يَصْنَعُونَ فِيهِ مِنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ، وَإِنْشَادِ قَصَائِدِ الْحُزْنِ، وَرِوَايَةِ الأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا كَذِبٌ كَثِيرٌ وَالصِّدْقُ فِيهَا لَيْسَ فِيهِ إلا تَجْدِيدُ الْحُزْنِ، وَالتَّعَصُّبُ، وَإِثَارَةُ الشَّحْنَاءِ وَالْحَرْبِ، وَإِلْقَاءُ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِ الإِسْلامِ، وَالتَّوَسُّلُ بِذَلِكَ إلَى سَبِّ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ، وَكَثْرَةُ الْكَذِبِ وَالْفِتَنِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَعْرِفْ طَوَائِفُ الإِسْلامِ أَكْثَرَ كَذِبًا وَفِتَنًا وَمُعَاوَنَةً لِلْكُفَّارِ عَلَى أَهْلِ الإِسْلامِ، مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الضَّالَّةِ الْغَاوِيَةِ، فَإِنَّهُمْ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ.
وَأُولَئِكَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ. وَهَؤُلاءِ يُعَاوِنُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَعَانُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ التُّرْكِ وَالتَّتَارِ عَلَى مَا فَعَلُوهُ بِبَغْدَادَ، وَغَيْرِهَا، بِأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَمَعْدِنِ الرِّسَالَةِ وَلَدِ الْعَبَّاسِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْمُؤْمِنِينَ، مِنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَخَرَابِ الدِّيَارِ.
وَشَرُّ هَؤُلاءِ وَضَرَرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الإِسْلامِ، لا يُحْصِيهِ الرَّجُلُ الْفَصِيحُ فِي الْكَلامِ. فَعَارَضَ هَؤُلاءِ قَوْمٌ إمَّا مِنْ النَّوَاصِبِ الْمُتَعَصِّبِينَ عَلَى الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَإِمَّا مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ قَابَلُوا الْفَاسِدَ بِالْفَاسِدِ، وَالْكَذِبَ بِالْكَذِبِ، وَالشَّرَّ بِالشَّرِّ، وَالْبِدْعَةَ بِالْبِدْعَةِ، فَوَضَعُوا الآثَارَ فِي شَعَائِرِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَالاكْتِحَالِ وَالاخْتِضَابِ، وَتَوْسِيعِ النَّفَقَاتِ عَلَى الْعِيَالِ، وَطَبْخِ الأَطْعِمَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الأَعْيَادِ وَالْمَوَاسِمِ، فَصَارَ هَؤُلاءِ يَتَّخِذُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مَوْسِمًا كَمَوَاسِمِ الأَعْيَادِ وَالأَفْرَاحِ.
وَأُولَئِكَ يَتَّخِذُونَهُ مَأْتَمًا يُقِيمُونَ فِيهِ الأَحْزَانَ وَالأَتْرَاحَ وَكِلا الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ أُولَئِكَ (أي الرافضة) أَسْوَأَ قَصْدًا وَأَعْظَمَ جَهْلا، وَأَظْهَرَ ظُلْمًا، لَكِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحَدِّثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ.
وَلَمْ يَسُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ، لا شَعَائِرَ الْحُزْنِ وَالتَّرَحِ، وَلا شَعَائِرَ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ، وَلَكِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى مِنْ الْغَرَقِ فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ. فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ أَيْضًا تُعَظِّمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَالْيَوْمُ الَّذِي أَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ كَانَ يَوْمًا وَاحِدًا، فَإِنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ثُمَّ فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ ذَلِكَ الْعَامِ، فَنَسَخَ صَوْمَ عَاشُورَاءَ.
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ كَانَ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاجِبًا؟ أَوْ مُسْتَحَبًّا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا، ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَصُومُهُ مَنْ يَصُومُهُ اسْتِحْبَابًا، وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَامَّةَ بِصِيَامِهِ، بَلْ كَانَ يَقُولُ: هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَأَنَا صَائِمٌ فِيهِ فَمَنْ شَاءَ صَامَ. وَقَالَ: صَوْمُ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً، وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ.
وَلَمَّا كَانَ آخِرُ عُمْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَبَلَغَهُ أَنَّ الْيَهُودَ يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا، قَالَ: لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ. لِيُخَالِفَ الْيَهُودَ، وَلا يُشَابِهَهُمْ فِي اتِّخَاذِهِ عِيدًا، وَكَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ مَنْ لا يَصُومُهُ، وَلا يَسْتَحِبُّ صَوْمَهُ، بَلْ يَكْرَهُ إفْرَادَهُ بِالصَّوْمِ، كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْكُوفِيِّينَ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ صَوْمَهُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَامَهُ أَنْ يَصُومَ مَعَهُ التَّاسِعَ؛ لأَنَّ هَذَا آخِرُ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ: لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلٍ، لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ مَعَ الْعَاشِرِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، فَهَذَا الَّذِي سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا سَائِرُ الأُمُورِ: مِثْلُ اتِّخَاذِ طَعَامٍ خَارِجٍ عَنْ الْعَادَةِ، إمَّا حُبُوبٌ وَإِمَّا غَيْرُ حُبُوبٍ، أَوْ تَجْدِيدُ لِبَاسٍ وَتَوْسِيعُ نَفَقَةٍ، أَوْ اشْتِرَاءُ حَوَائِجِ الْعَامِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَوْ فِعْلُ عِبَادَةٍ مُخْتَصَّةٍ. كَصَلاةٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِ، أَوْ قَصْدُ الذَّبْحِ، أَوْ ادِّخَارُ لُحُومِ الأَضَاحِيّ لِيَطْبُخَ بِهَا الْحُبُوبَ، أَوْ الاكْتِحَالُ وَالاخْتِضَابُ، أَوْ الاغْتِسَالُ أَوْ التَّصَافُحُ، أَوْ التَّزَاوُرُ أَوْ زِيَارَةُ الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ، الَّتِي لَمْ يَسُنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ، وَلا اسْتَحَبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لا مَالِكٌ وَلا الثَّوْرِيُّ، وَلا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَلا أَبُو حَنِيفَةَ، وَلا الأوْزَاعِيُّ، وَلا الشَّافِعِيُّ، وَلا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَلا إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَلا أَمْثَالُ هَؤُلاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ..
وَدِينُ الإِسْلامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ، عَلَى أَنْ لا نَعْبُدَ إلاّ اللَّهَ، وَأَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَ، لا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ. قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا. فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ الْمَشْرُوعُ الْمَسْنُونُ، وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - يَقُولُ فِي دُعَائِهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا، وَلا تَجْعَلْ لأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا." انتهى ملخصا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (الفتاوى الكبرى ج 5)، والله الهادي إلى سواء السبيل.
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم (21775) ورقم (303756) ورقم (21819) ورقم (21787) .
والله أعلم.