الحمد لله.
الله سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شيء قدرةً وعلمًا، كما قال سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) الطلاق/12
وقال تعالى: (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) الفتح/20-21
أي أحاط الله بالغنائم المؤجلة كغنائم فارس والروم، والمقصود هنا إحاطة القدرة، ومن لازمها: إحاطة العلم أيضا؛ لأن من أحاطت قدرته بالشيء، فقد أحاط به علمه، وأما إحاطة العلم فلا تستلزم إحاطة القدرة.
قال ابن عاشور، رحمه الله: " فالمعنى: أن الله قدر عليها، أي قدر عليها، فجعلها لكم؛ بقرينة قوله قبله: ( لم تقدروا عليها ) . والمعنى: ومغانم أخرى لم تقدروا على نيلها، قد قدر الله عليها، أي: فأنالكم إياها. وإلا لم يكن لإعلامهم بأن الله قدر على ما لم يقدروا عليه جدوى لأنهم لا يجهلون ذلك، أي أحاط الله بها لأجلكم.
وفي معنى الإحاطة: إيماء إلى أنها كالشيء المحاط به من جوانبه، فلا يفوتهم مكانه، جعلت كالمخبوء لهم. ولذلك ذيل بقوله: وكان الله على كل شيء قديرا إذ هو أمر مقرر في علمهم." انتهى، من "التحرير والتنوير" (26/180).
وقال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) الإسراء/60.
وليس المراد أنه أحاط به بذاته فيكونون فيه، فإن هذا محال، فالله هو الصمد لا جوف له، وتعالى الله أن يكون في ذاته شيء مخلوق، بل المراد إحاطة القدرة.
قال الطبري رحمه الله في تفسيره (17/479): "هذا حضّ من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، على تبليغ رسالته، وإعلام منه أنه قد تقدّم منه إليه القول بأنه سيمنعه، من كلّ من بغاه سوءا وهلاكا.
يقول جلّ ثناؤه: واذكر يا محمد إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس قدرة، فهم في قبضته، لا يقدرون على الخروج من مشيئته، ونحن مانعوك منهم، فلا تتهيَّب منهم أحدا، وامض لما أمرناك به من تبليغ رسالتنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
قال الحسن: أحاط بالناس، عصمك من الناس.
وقال أيضا : (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) قال: يقول: أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك، فعرف أنه لا يُقتل.
وقال مجاهد (أحاطَ بالنَّاسِ) قال: فهم في قبضته.
وعن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير : قوله (أحاطَ بالنَّاسِ) قال: منعك من الناس. قال معمر: قال قتادة، مثله" انتهى، ملخصا.
وقال تعالى: (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) البقرة/19.
وقال: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) آل عمران/120.
وقال: (أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) فصلت/54.
وقال: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ) البروج/19، 20.
فالإحاطة إحاطة العلم والقدرة، وليست كإحاطة الفلك بالفلك؛ فإن هذا محال في حق الله تعالى.
قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته: "محيط بكل شيء وفوقه".
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في شرحه: " أما كونه محيطا بكل شيء، فقال تعالى: والله من ورائهم محيط ، ألا إنه بكل شيء محيط ، ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا .
وليس المراد من إحاطته بخلقه: أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وإنما المراد: إحاطة عظمة، وسَعةٍ، وعلمٍ، وقدرة، وأنها بالنسبة إلى عظمته كالخردلة. كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن، إلا كخردلة في يد أحدكم.
ومن المعلوم - ولله المثل الأعلى - أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاطت قبضته بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عال عليها فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف. فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد به إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته؟ أو يدني إليه من يشاء من خلقه؟ فمن نفى ذلك لم يقدره حق قدره" انتهى من "شرح الطحاوية" (2/374).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك حفظه الله: " الله تعالى وصف نفسه بالإحاطة في آيات كثيرة كقوله تعالى: (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ) ، وفي الآية الأخرى: (وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) ، وقال سبحانه وتعالى: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَاً) ، هذا الذي جاء في القرآن الإحاطة العلمية، ومعناها: أنه لا يخرج عن علمه تعالى شيء، والشيء المحيط بغيره هو الذي يكون محيطا به من جميع الجوانب، فعلم الله محيط بكل شيء، فهو تعالى محيط بكل شيء علما وقدرة (إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
أما الإحاطة الذاتية بمعنى أنها كإحاطة الفلك بما فيه فلا، فالله تعالى فوق كل شيء، وليس في ذاته شيء من مخلوقاته؛ بل هو بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته" انتهى من "شرح الطحاوية" ص192.
والله أعلم.