الحمد لله.
قال تعالى: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)هود/42-43.
ذكر الله سبحانه في هذه الآيات، هلاك ابن نوح عليه السلام، وذكره سبحانه للموج؛ لأن الموقف وقتئذٍ كان من المواقف العظيمة، وكانت تلك الأمواج هائلة كالجبال العظيمة، وقد ناداه نوح عليه السلام، فظن أنه قد يتمكن من النجاة، لكن الموج حال بينهما، وغرق مع الغارقين.
يقول الشيخ "السعدي": "فحينئذ فجر الله الأرض عيونا، وأمر السماء أن تصب الماء المنهمر الكثير، فالتقت مياه السماء بمياه الأرض، وساحت على الأماكن المنخفضة، ثم ارتفعت شيئا فشيئا على كل المرتفعات حتى خفيت قمم الجبال الشاهقة، والسفينة تجري بهم في موج كالجبال، تضرب يمينا وشمالا.
وفي تلك الحال المزعجة رأى نوح ابنه الكافر، الذي كان على دين قومه، وقد اعتزل أباه حتى في هذه الحال، فرآه مثل سائر قومه قد فر هاربا من المياه الجارفة، فناداه نوح مترققًا فقال: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ هود/42.
فتمادى به الغرور في تلك الحال التي تنقشع فيها الغياهب، إلا عن القلوب المحجوبة؛ فقال: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ هود/43.
لم يخطر ببالهم أن المياه سترتفع فوق رؤوس الجبال، فقال له نوح: لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود: 43]؛ فلا يعصم جبل، ولا حصن، ولا غير ذلك؛ إلا من رحم الله، ورحمته في تلك الحال متعينة في ركوب السفينة مع نوح.
وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ [هود: 43]؛ فكان ذلك الابن من المغرقين.
فأغرق الله جميع الكافرين، ونَجَّى نوحا ومن معه أجمعين.
وكان في ذلك آية: على أن ما جاء به نوح من التوحيد والرسالة والبعث والدين حق، وأن من خالفه فإنه مبطل.
ودليل على الجزاء في الدنيا لأهل الإيمان، بالنجاة والكرامة، ولأهل الكفر بالهلاك والإهانة"، انتهى من "تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن" (183 - 184).
يقول صاحب "وظيفة الصورة الفنية في القرآن" (271 - 272): "ينتقل التصوير إلى مشهد السفينة، وهم راكبون فيها، وهي تشق أمواجًا ضخمة كالجبال، وهذا التصوير يوحي بشدة الهول، وضخامة السيول، وغزارة الأمطار، ويترك للخيال أن يتابع مشهد السفينة وركابها وسط هذه الأهوال المادية والنفسية، أهوال في مشاهد الطبيعة، وأهوال نفسية مجسّمة في مناداة نوح ولده وسط هذه الأمواج، أن ينضم إلى ركاب السفينة المؤمنين، ولكنه لم يستجب فكان مع المغرقين، يقول تعالى: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ، قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) هود/ 42 - 43.
والتصوير هنا دقيق، ومُوْحٍ؛ فهو يشمل الأهوال الحسية الممثلة في أمواج كالجبال، وأهوال نفسية أيضًا ممثّلة في خوف الوالد على ولده، والمشهد المرسوم حي شاخص، يعتمد على الفعل المضارع (وَهِيَ تَجْرِي)، على طريقة القرآن في استحضار الحدث من الماضي إلى الحاضر، ثم يبدأ استعراضه، كأنه ماثل أمام العيون الآن.
والحركة التصويرية السريعة في إغراق ولد نوح، بعد رفضه نداء أبيه له (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)، والانتقال من أسلوب النداء بين نوح وولده، ثم فجأة يأتي الفعل الماضي (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ)، ليرسم سرعة حركة الموج في إغراقه، حتى غدا ماضيًا، بعد أن كان حاضرا في النداء مع أبيه.
والعطف بالفاء (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) يؤكد سرعة الإغراق بين حركة الموج، وسرعة ابتلاعه"، انتهى.
وأما ما ورد في السؤال: من أن حكمة ذلك كان شفقةً على نوح عليه السلام؛ أن يرى ابنه وهو يغرق؛ فليست بالأمر الظاهر من السياق، ولم نر من ذكرها في لطائف الآية، ونكات ألفاظها؛ لكن ذكر الموج هنا أمر طبيعي، مع عظمة الماء النازل من الأرض، مع ما تفجرت عنه عيون الأرض، وقد ذكر الموج في سياقات أخرى في القصة.
ثم لفظة "حال" لا يلزم أن تكون حيلولة البصر، بحيث إنه لم يراه وهو يغرق؛ بل الظاهر أنه "حال" بين وصول أي منهما إلى الأخر، فمهما أدركت الشفقة نوحا عليه السلام على ابنه، أو حاول إنقاذه بفعله؛ فإنه غير قادر، ولا ممكن من ذلك، لأن هذا "الموج" العظيم الهادر: قد حال بينهما ... وقد حتم الله على ذلك الابن الكافر : أن يكون من المغرقين!!
والله أعلم.