الحمد لله.
حديث : ( من غشنا فليس منا ) أخرجه مسلم في صحيحه (146) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ ، فَلَيْسَ مِنَّا ، وَمَنْ غَشَّنَا ، فَلَيْسَ مِنَّا ) ، وفي رواية أخرى لمسلم (147) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه – أيضاً - ، وفيه : ( مَنْ غَشَّ ، فَلَيْسَ مِنِّي ) .
والمقصود من الحديث ذم الغاش ، وأنه ليس على سنن وطريقة وصفات المسلمين ، والتي منها : النصح والصدق مع الآخرين ، وعدم غشهم ، ولا يدل الحديث على كفر الغاش .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله :
" النَّقْصُ عَنْ الْوَاجِبِ نَوْعَانِ :
نَوْعٌ يُبْطِلُ الْعِبَادَةَ ، كَنَقْصِ أَرْكَانِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ
وَالْحَجِّ .
وَنَقْصٌ لَا يُبْطِلُهَا ، كَنَقْصِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ الَّتِي لَيْسَتْ
بِأَرْكَانِ ؛ وَنَقْصِ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ إذَا تَرَكَهَا سَهْوًا ...
وَبِهَذَا تَزُولُ الشُّبْهَةُ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ ، وَخِلَافُ
الْمُرْجِئَةِ وَالْخَوَارِجِ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ اسْمًا لِدِينِ
اللَّهِ الَّذِي أَكْمَلَهُ بِقَوْلِهِ : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
) ، وَهُوَ اسْمٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَلِلْبِرِّ وَلِلْعَمَلِ الصَّالِحِ ..
فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ التَّامُّ .
وَكَمَالُهُ نَوْعَانِ : كَمَالُ الْمُقَرَّبِينَ ، وَهُوَ الْكَمَالُ
بِالْمُسْتَحَبِّ .
وَكَمَالُ الْمُقْتَصِدِينَ ، وَهُوَ الْكَمَالُ بِالْوَاجِبِ فَقَطْ .
وَإِذَا قُلْنَا فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (
لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ
حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) و ( لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ) ،
وَقَوْلِهِ : ( إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ ) الْآيَةَ .. ، إذَا قَالَ الْقَائِلُ فِي مِثْلِ هَذَا : لَيْسَ
بِمُؤْمِنِ كَامِلِ الْإِيمَانِ ؛ أَوْ نَفَى عَنْهُ كَمَالَ الْإِيمَانِ ، لَا
أَصْلَهُ ؛ فَالْمُرَادُ بِهِ كَمَالُ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ ، لَيْسَ بِكَمَالِ
الْإِيمَانِ الْمُسْتَحَبِّ ، كَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ ، أَوْ ارْتَكَبَ
مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ غَيْرَ الْوَطْءِ ... وَكَذَا الْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ :
هُوَ الْمُؤَدِّي لِلْإِيمَانِ الْوَاجِبِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ إيمَانِهِ
نَاقِصًا عَنْ الْوَاجِبِ : أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا حَابِطًا .. ، وَلَا أَنْ
يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ كَمَا تَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ ، وَلَا أَنْ
يُقَالَ : وَلَوْ أَدَّى الْوَاجِبَ لَمْ يَكُنْ إيمَانُهُ كَامِلًا ، فَإِنَّ
الْكَمَالَ الْمَنْفِيَّ هُنَا الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ .
فَهَذَا فُرْقَانٌ يُزِيلُ الشُّبْهَةَ فِي هَذَا الْمَقَامِ ، وَيُقَرِّرُ
النُّصُوصَ كَمَا جَاءَتْ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : ( مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ) وَنَحْوُ ذَلِكَ ، لَا
يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ : لَيْسَ مِنْ خِيَارِنَا ، كَمَا تَقُولُهُ
الْمُرْجِئَةُ ، وَلَا أَنْ يُقَالَ : صَارَ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ ،
فَيَكُونُ كَافِرًا ، كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ .
بَلْ الصَّوَابُ : أَنَّ هَذَا الِاسْمَ الْمُضْمَرَ يَنْصَرِفُ إطْلَاقُهُ إلَى
الْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ
بِلَا عِقَابٍ ، وَلَهُمْ الْمُوَالَاةُ الْمُطْلَقَةُ وَالْمَحَبَّةُ
الْمُطْلَقَةُ ، وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهِمْ دَرَجَاتٌ فِي ذَلِكَ بِمَا فَعَلَهُ
مِنْ الْمُسْتَحَبِّ ؛ فَإِذَا غَشَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ حَقِيقَةً ؛
لِنَقْصِ إيمَانِهِ الْوَاجِبِ الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ الْمُطْلَقَ
بِلَا عِقَابٍ ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ مُطْلَقًا ؛ بَلْ
مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ مُشَارَكَتَهُمْ فِي بَعْضِ
الثَّوَابِ ، وَمَعَهُ مِنْ الْكَبِيرَةِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ ..."
انتهى مختصرا من " مجموع الفتاوى " (19/292-294) .
وقال محمد شمس الحق العظيم
آبادي رحمه الله :
" ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ ) : قَالَ الْخَطَّابِيّ : مَعْنَاهُ لَيْسَ عَلَى
سِيرَتنَا وَمَذْهَبنَا , يُرِيد أَنَّ مَنْ غَشَّ أَخَاهُ وَتَرَكَ مُنَاصَحَته ،
فَإِنَّهُ قَدْ تَرَكَ اِتِّبَاعِي وَالتَّمَسُّك بِسُنَّتِي .
وَقْد ذَهَبَ بَعْضهمْ : إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ نَفْيَه عَنْ الْإِسْلَام
, وَلَيْسَ هَذَا التَّأْوِيل بِصَحِيحٍ , وَإِنَّمَا وَجْهُه مَا ذَكَرْت لَك ,
وَهَذَا كَمَا يَقُول الرَّجُل لِصَاحِبِهِ أَنَا مِنْك وَإِلَيْك , يُرِيد
بِذَلِكَ الْمُتَابَعَة وَالْمُوَافَقَة , وَيَشْهَد لِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : (
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّك غَفُور رَحِيم )
اِنْتَهَى . وَالْحَدِيث دَلِيل عَلَى تَحْرِيم الْغِشّ ، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ
" انتهى من " عون المعبود شرح سنن أبي داود " (9/231) . وينظر : " فتح الباري "
(3/163) .
والله أعلم .
تعليق