الحمد لله.
أولا :
معاملة الجن خطرٌ عظيم ، وبابٌ من أبواب الشر والفساد ، طالما أصاب الناس من شره وآفته ، وحسبك في ذلك أن الشرك لم يدخل على الناس إلا من طريقهم ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - مُخبرا عن تعليم الله عز وجل عباده بقوله - : ( وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا ) رواه مسلم (2865)
وإن كان في الجن من المؤمنين والمسلمين كما فيهم من الكافرين الفاسقين ، غير أن احتجابهم عن الإنسان يحول دون الاطمئنان إلى أي منهم ، ويوجب الخوف من استدراجهم ، خاصة مع انتشار الجهل واشتهار البدع التي هي بريد الشرك ، فغالبا ما توقع هذه المخلوقات الإنسان فيما يحرم ، ثم لا تنفعهم أيضا إلا يسيرا .
وقد قال الله عز وجل : ( وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) الجن/6
لذلك كانت فتاوى أهل العلم بحرمة التعاطي مع الجن والتعامل معهم مطلقا – سواء في ذلك المؤمن منهم والكافر – وضرورة عدم التساهل في ذلك ، سدا لباب الفتنة والريبة ، ورعاية لقلوب الناس التي تملؤها الفطرة الإيمانية .
جاء في "الإنصاف" للمرداوي (10/351) :
" قوله : ( فأما الذي يُعَزِّمُ على الجن ، ويزعم أنه يجمعها فتطيعه : فلا يكفر ولا يقتل ، ولكن يعزر ) فعلى المذهب : يعزر تعزيرا بليغا لا يبلغ به القتل على الصحيح من المذهب ، وقيل : يبلغ بتعزيره القتل " انتهى باختصار .
وجاء في "الموسوعة الفقهية" (14/18) :
" أما الاستعانة بغير الله ، فإما أن تكون بالإنس أو الجن : فإن كانت الاستعانة بالجن فهي ممنوعة ، وقد تكون شركا وكفرا ، لقوله تعالى : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) الجن/6 "انتهى .
ويقول الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (تحت حديث رقم/2760) :
" ومن هذا القبيل معالجة بعض المتظاهرين بالصلاح للناس بما يسمونه بـ " الطب الروحاني " ، سواء كان ذلك على الطريقة القديمة من اتصاله بقرينه من الجن - كما كانوا عليه في الجاهلية - أو بطريقة ما يسمى اليوم باستحضار الأرواح ، ونحوه عندي " التنويم المغناطيسي " ، فإن ذلك كله من الوسائل التي لا تُشرع ؛ لأن مرجعها إلى الاستعانة بالجن التي كانت من أسباب ضلال المشركين كما جاء في القرآن الكريم : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) الجن/6 ، أي : خوفا وإثما .
وادعاء بعض المبتلين بالاستعانة بهم أنهم إنما يستعينون بالصالحين منهم دعوى كاذبةٌ ؛ لأنهم مما لا يمكن - عادة - مخالطتهم ومعاشرتهم ، التي تكشف عن صلاحهم أو طلاحهم ، ونحن نعلم بالتجربة أن كثيرا ممن تصاحبهم أشد المصاحبة من الإنس ، يتبين لك أنهم لا يصلحون ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) التغابن/14 هذا في الإنس الظاهر ، فما بالك بالجن الذين قال الله تعالى فيهم : ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ) الأعراف/27 " انتهى .
وقد سبق في موقعنا نقل فتاوى أخرى لأهل العلم في هذا الموضوع في أجوبة الأسئلة الآتية : (10518) ، (11114) ، (78546)
ثانيا :
أول ما ينبغي لطالب العلم في طلبه تخير العلماء الثقات ، أهل الديانة والأمانة والورع ، فلا يحمل العلم إلا عَمَّن يؤخذ عنه بحقه ، وحقه العمل به بطاعة الله والتزام شرعه وأمره ، فإن للمعلم أكبر الأثر في نفس الطالب المتعلم ، ولا بد أن يتزين ذلك بتقوى الله عز وجل .
عن إبراهيم النخعي قال :
" كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته ، وإلى صلاته ، وإلى حاله ، ثم يأخذون عنه " انتهى . "الجامع لأخلاق الراوي" (1/127)
وقد ذكر العلماء ذلك فيما ينبغي على متعلم القرآن الكريم خاصة .
يقول النووي رحمه الله في "التبيان في آداب حملة القرآن" (ص/13) :
" ولا يتعلم إلا ممن تكملت أهليته ، وظهرت ديانته ، وتحققت معرفته ، واشتهرت صيانته ، فقد قال محمد بن سيرين ومالك بن أنس وغيرهما من السلف : هذا العلم دين ، فانظروا عَمَّن تأخذون دينكم " انتهى .
وقال الزرنوجي رحمه الله في "تعليم المتعلم" (ص/7) :
" ينبغي أن يختار الأعلم والأورع والأسن ، كما اختار أبو حنيفة حماد بن أبي سليمان بعد التأمل والتفكر ، وقال : وجدته شيخا وقورا حليما صبورا " انتهى .
ويقول ابن جماعة الكناني في كتابه "تذكرة السامع والمتكلم" (ص/133) :
" ينبغي للطالب أن يقدم النظر ، ويستخير الله فيمن يأخذ العلم عنه ، ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه ، وليكن إن أمكن ممن كملت أهليته ، وتحققت شفقته ، وظهرت مروءته ، وعرفت عفته ، واشتهرت صيانته ، وكان أحسن تعليما ، وأجود تفهيما .
ولا يرغب الطالب في زيادة العلم مع نقص في ورع أو دين أو عدم خلق جميل ، فعن بعض السلف : " هذا العلم دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم " .
وإذا سبرت أحوال السلف والخلف لم تجد النفعَ يحصل غالبا ، والفلاحَ يُدرِك طالبًا إلا إذا كان للشيخ من التقوى نصيبٌ وافر ، وعلى نصحه للطلبة دليل ظاهر .
وكذلك إذا اعتبرت المصنفات ، وجدت الانتفاع بتصنيف الأتقى الأزهد أوفر ، والفلاح بالاشتغال به أكثر " انتهى .
ثالثا :
فالنصيحة لهذا الطالب أن يترك ذلك المعلم الذي يستخدم الجن – إن ثبت ذلك عنه يقينا - ، ولا يأخذ عنه شيئا من العلم أو الخلق أو الدين ، فذلك أحوط لدينه ونفسه ، وأبرأ لذمته ، إن كان بمقدوره أن يعوض ما فاته ، ويكمل دراسته عند شيخ من أهل السنة والاستقامة .
وأما إن كان لا يوجد في بلده من أهل الاستقامة من يقوم له بذلك ، فالذي نراه أنه يكمل القدر اليسير المتبقي له من دراسته ، إذا كان الحال ما ذكر من أنه إنما يستخدم الجن في علاج المسحورين أو المرضى ، ولم يعرف عنه أنه يعمل بالسحر أو أذى المسلمين ، أو العدوان على أموالهم أو أعراضهم ، والقاعدة عند أهل العلم أنه يغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء ؛ فنحن ، وإن كنا نمنع ابتداء أن يتعلم الطالب على شيخ من أهل البدع ، أو ممن يظهر عليه انحراف في علمه أو عمله ، ففي مثل حال السائل ، يرخص له في استمراره في هذه الدراسة حتى ينتهي ، لا سيما إن كان القدر المتبقي يسيرا ، ولا سيما ـ أيضا ـ إن كان في بلد يعز عليه أن يجد بديلا من أهل الاستقامة والسنة .
على أنه يؤيد ما ذكرناه هنا ـ أيضا ـ أن هذا الشيخ ربما كان يأخذ بقول من يقول بجواز استعمال الجن في الأمور المباحة ، كالتي ذكرت في السؤال ، فيكون متأولا معذورا ، لا نستطيع أن نبدعه أو نضلله .
وهذا القول ، وإن كان قال به بعض علماء أهل السنة ، إلا أن الصواب هو ما ذكرناه أولا ، من المنع من استخدام الجن مطلقا . لكن الراجح في المسألة شيء ، وأعذار المتأولين شيء آخر .
رابعا :
نصيحتنا في شأن الصدقة أيضا الاستغناء عنها ، والسعي الدائم إلى تحصيل العيش من كسب اليد ، من غير تقصير في طلب العلم ولا انهماك في طلب الرزق ، بل يكون معتدلا ، يتكفف عما في أيدي الناس ، ويجتهد في تعلم مسائل الدين ، وبذلك ينال رضى الله عز وجل .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ) رواه مسلم (2699)
لكن إن أعوزت الطالب الحيلة ، واضطر إلى الصدقة التي يعطيه إياها هذا المعلم ، فلا حرج عليه إن شاء من قبولها وأخذها .
والله أعلم .
تعليق