الحمد لله.
أولاً:
ما ذكرتَه أخي السائل في مقدمة سؤالك قد جاء النص عليه في الكتاب والسنَّة الصحيحة ، وإليكه بترتيبك :
1. قال تعالى ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ . وَطُورِ سِينِينَ . وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) التين/ 1 – 3 .
قال البيضاوي – رحمه الله - :
( وهذا البلد الأمين ) أي : الآمن ، من أمُن الرجل أمانة فهو أمين ، أو المأمون فيه ، يأمن فيه من دخله ، والمراد به مكة .
" تفسير البيضاوى " ( 5 / 507 ) .
2. ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ . فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) آل عمران/ 96 ، 97 .
3. عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ ؛ لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا ، ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ ، فَيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ ) .
رواه البخاري ( 1782 ) ومسلم ( 2943 ) .
النقاب : الطرق .
ثانياً:
الأمن الذي ذكره الله تعالى من خصائص بيته المحرَّم ، قد ذكر العلماء رحمهم الله له
معاني كثيرة ، منها الضعيف ، ومنها القوي المقبول .
ومن أضعف الأقوال : قول من قال إن من دخل الحرم أمِن من عذاب الآخرة ! .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
ومَن ظن أنَّ مَن دخل الحرم كان آمناً من عذاب الآخرة مع ترك الفرائض من الصلاة
وغيرها ومع ارتكاب المحارم : فقد خالف إجماع المسلمين ، فقد دخل البيت من الكفار
والمنافقين والفاسقين مَن هو مِن أهل النار بإجماع المسلمين .
" مجموع الفتاوى " ( 18 / 344 ) .
وأشهر معاني " الأمن "
المقبولة :
1. أن الأمن في الحرم في الجاهلية ، وهو الأمن على النفس للداخل فيه ، من القتل
والإيذاء من الجبابرة ، وممن هو فيه من الناس ، كولِيِّ من قتله .
2. وأيضاً : الأمن على البيت الحرام أن يصيبه خسف أو هدم عقوبة من الله تعالى ، وهو
ما امتنَّ الله تعالى به على أهل الحرم في الجاهلية .
قال تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ
النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) العنكبوت/ 67 .
قال الإمام الطبري - رحمه الله - :
يعني بقوله ( آمِناً ) : آمناً من الجبابرة وغيرهم ، أن يُسلَّطوا عليه ، ومِن
عقوبة الله أن تناله كما تنال سائر البلدان ، من خسف ، وائتفاك ، وغرق ، وغير ذلك
من سخط الله ومثلاته - أي : عقوباته - التي تصيب سائر البلاد غيره .
" تفسير الطبري " ( 2 / 44 ، 45 ) .
والائتفاك : هو العذاب الشديد .
وقد ذكر ابن العربي المالكي رحمه الله في معنى " الأمن " أقوالاً ، القول الثاني
منها : أن " من دخله كان آمناً من التشفي والانتقام ، كما كانت العرب تفعله فيمن
أناب إليه من تركها لحقٍّ يكون لها عليه .
" أحكام القرآن " ( 1 / 69 ) .
وهو القول الذي رجحه ، قال :
والصحيح فيه : القول الثاني ، وهذا إخبار من الله تعالى عن منَّته على عباده ، حيث
قرر في قلوب العرب تعظيم هذا البيت ، وتأمين من لجأ إليه ; إجابة لدعوة إبراهيم صلى
الله عليه وسلم حين أنزل به أهله وولده ، فتوقع عليهم الاستطالة ، فدعا أن يكون
آمنا لهم ، فاستجيب دعاؤه .
" أحكام القرآن " ( 1 / 69 ) .
ولمَّا كان الحرم آمناً جاءت أهلَه الثمرات من كل مكان ، رزقاً من رب العالمين ،
واستجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام .
قال تعالى : ( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ
ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا ) القَصَص/ 57 .
3. أن الأمن المراد في الآية الثانية المذكورة سابقاً أنه خبر بمعنى الإنشاء ،
والإنشاء هنا هو الأمر بتأمين من يدخل الحرم ، فليس خبراً مجرداً كما هو الحال في
وصفه أيام الجاهلية ، أو في آخر الزمان أنه يأمن فيه داخله من الدجال .
ولا أحد ينكر ما حصل في الحرم لبيته ولأهله ، من الهدم والقتل ، وحاشاه أن يكون
خبراً مجرَّداً في الإسلام ، والواقع يشهد بعدم وجود أمان لمن دخله في أزمان عديدة
.
وكلا المعنيين يحتمله قوله تعالى : ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ) البقرة/ 125 .
قال الطاهر بن عاشور - رحمه الله - :
والمراد من " الجعل " في الآية : إما الجعل التكويني ؛ لأن ذلك قدَّره الله ، وأوجد
أسبابه ، فاستقر ذلك بين أهل الجاهلية ، ويسَّرهم إلى تعظيمه .
وإما " الجعل " : أن أمر الله إبراهيم بذلك ، فأبلغه إبراهيم ابنَه إسماعيل ، وبثه
في ذريته ، فتلقاه أعقابهم تلقي الأمور المسلَّمة ، فدام ذلك الأمن في العصور
والأجيال ، من عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن أغنى الله عنه بما شرع من أحكام
الأمن في الإسلام في كل مكان ، وتم مراد الله تعالى .
فلا يريبكم ما حدث في المسجد الحرام من الخوف ، في حصار " الحجَّاج " في فتنة " ابن
الزبير " ، ولا ما حدث فيه من الرعب والقتل والنهب في زمن " القرامطة " حين غزاه
الحسن ابن بهرام الجنابي - نسبة إلى بلدة يقال لها جنَّابة ، بتشديد النون - كبير
القرامطة ، إذ قتل بمكة آلافاً من الناس ، وكان يقول لهم : " يا كلاب ، أليس قال
لكم محمد المكي : ( وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ) آل عمران: من الآية 97 ، أيُّ
أمنٍ هنا ؟! " ، وهو جاهل غبي ؛ لأن الله أراد الأمر بأن يجعل المسجد الحرام مأمناً
في مدة الجاهلية ، إذ لم يكن للناس وازع عن الظلم ، أو هو خبر مراد به الأمر مثل (
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) البقرة/ 228 .
" التحرير والتنوير " ( 1 / 690 ، 691 ) .
فتحصَّل لنا أن معنى " الأمن
" في الحرم :
1. أن يكون خبراً مجرداً ، وله أحوال :
أ. أمن البيت في الجاهلية من الهدم والغرق والخسف .
ب. أمن أهله في الجاهلية من القتل من الجبابرة ، وأمن داخله من
الناس ، فكان الرجل يرى قاتل والده ولا يمسه بسوء ولا يخيفه .
ج. أمن أهله في الإسلام من فتنة الدجال .
2. أن يكون خبراً بمعنى الإنشاء ، والمراد به : الأمر بتأمين من كان فيه من الناس
داخله .
وانظر توسعّاً مفيداً في جواب السؤال رقم (
137801 ) .
ونرجو بما قلناه أن يكون قد زال عندك الإشكال في معنى " الأمن " في الحرم ، ونسأل الله أن يوفقنا وإياك لما يحب ويرضى .
والله أعلم
تعليق