الحمد لله.
كلمة " مستبصرين " بمعنى " مبصرين "، والسين والتاء للتأكيد ، مثل : استجاب ، واستمسك ، واستكبر ، وهي كلمة تدل على حصول العلم والبيان لصاحبها ، وقد نص علماء اللغة على أن " المستبصر " هو : من تبين ما يأتيه من خير وشر .
انظر: " مفردات ألفاظ القرآن " للراغب الأصفهاني (1/95)، " لسان العرب " لابن منظور (4/64)
وقد وصف الله عز وجل في كتابه الحكيم قوم عاد وثمود بأنهم كانوا " مستبصرين "، وذلك في قوله عز وجل : ( وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) العنكبوت/38.
ولكن أهل العلم اختلفوا في تحديد وجه استبصارهم ،
والأمور التي أثبت الله لهم عز وجل العلم بها والتبصر فيها ، وذلك إلى أربعة أقوال
:
القول الأول : وهو الذي نص عليه أئمة المفسرين من الصحابة والتابعين ؛ أن معنى قوله
عز وجل : (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) أي : كانوا على بصيرة في دينهم ، وعلى علم
بعقيدتهم ، ولم يكونوا جاهلين بمذاهبهم ، بل كانوا معجبين بما هم عليه ، يحسبون
أنهم على الحق والصواب .
يقول ابن عباس رضي الله عنه :
" قوله : ( فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) يقول : كانوا
مستبصرين في دينهم " انتهى.
ويقول مجاهد رحمه الله :
" ( وكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) في الضلالة " انتهى .
وقال قتادة رحمه الله :
" ( وكانُوا مسْتَبْصِرِينَ ) في ضلالتهم مُعْجَبين بها " انتهى.
وهذا القول هو ما فسر به الآية الإمام ابن جرير الطبري في " جامع البيان " (20/35)
– وقد أسند آثار السلف السابقة – ثم قال :
" وكانوا مستبصرين في ضلالتهم ، مُعْجبين بها ، يحسبون أنهم على هدى وصواب ، وهم
على الضلال " انتهى.
القول الثاني : ( وكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) أي :
كانوا على علم أن ما هم عليه باطل ، وأن الحق مع الرسل والأنبياء ، وكانوا على
بصيرة بأنهم على الضلالة ، ولكنهم استحبوا الضلالة على الهدى .
وهذا القول هو ترجيح الإمام القرطبي رحمه الله حيث يقول :
" فيه قولان :
أحدهما : وكانوا مستبصرين في الضلالة ، قاله مجاهد .
والثاني : كانوا مستبصرين قد عرفوا الحق من الباطل بظهور البراهين .
وهذا القول أشبه ، لأنه إنما يقال : " فلان مستبصر " إذا عرف الشيء على الحقيقة "
انتهى.
" الجامع لأحكام القرآن " (13/344)
وهو القول الذي قرره العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله في أكثر من كتاب له .
قال رحمه الله :
" ردوا الهدى بعد ما تيقنوه وكانوا مستبصرين به ، قد ثَلِجَت له صدورهم ، واستيقنته
أنفسهم ، فاختاروا عليه العمى والضلالة ، كما قال تعالى في وصفهم : ( وَأَمَّا
ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ) وقال : (
وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ) أي : موجبة لهم التبصُّرَ واليقين ،
وإن كان جميع الأمم المهلكة هذا شأنهم ، فإن الله لم يهلك أمة إلا بعد قيام الحجة
عليها ، لكن خصت ثمود من ذلك الهدى والبصيرة بمزيد ، ولهذا لما قرنهم بقوم عاد قال
: ( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ
أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) ثم قال : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ) ولهذا أمكن عادا المكابرة وأن يقولوا
لنبيهم ( مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ) ولم يمكن ذلك ثمود وقد رأوا البينة عيانا ،
وصارت لهم بمنزلة رؤية الشمس والقمر ، فردوا الهدى بعد تيقنه والبصيرة التامة به "
انتهى.
" التبيان في أقسام القرآن " (ص/39) ط عالم الفوائد .
القول الثالث : ( وكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) أي : في أمور الدنيا لا في أمور الدين ، فقد كانوا على علم بكثير من فنون العمارة والصناعة والزراعة وأنواع التجارة ، ولكنهم جاهلون في أمر آخرتهم.
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله :
" الأظهر في قوله في هذه الآية : ( وكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) أن استبصارهم المذكور
هنا بالنسبة إلى الحياة الدنيا خاصة ; كما دل عليه قوله تعالى : ( يعلمون ظاهرا من
الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) ، وقوله تعالى : ( وقالوا لو كنا نسمع أو
نعقل ما كنا في أصحاب السعير ) ، ونحو ذلك من الآيات " انتهى.
" أضواء البيان " (6/160)
القول الرابع : ( وكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) أي :
كانوا عقلاء ذوي خبرة وتجربة عقلية مستبصرة ، ولكن عقولهم هذه لم ترشدهم إلى اتباع
الحق والهدى ، نقل أهل العلم هذا القول عن الإمام الفراء ، وتابعه عليه بعض
المفسرين .
قال الزمخشري رحمه الله :
" ( وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ ) عقلاء متمكنين من النظر والافتكار ، ولكنهم لم
يفعلوا .
أو كانوا متبينين أن العذاب نازل بهم ؛ لأن الله تعالى قد بين لهم على ألسنة الرسل
عليهم السلام ، ولكنهم لجوا حتى هلكوا " انتهى.
" الكشاف " (3/458)، ومثله في " أنوار التنزيل " للبيضاوي (ص/316)
والاستشكال الوارد في السؤال إنما يتوجه إذا قيل
بالقول الرابع ، أما إن رجحنا أحد الأقوال الثلاثة الأولى فلا يرد الإشكال أصلا ،
والذي نميل إليه هو الأخذ بالقول الأول ، المستند إلى آثار الصحابة والتابعين رحمهم
الله ، فهم أولى بالاتباع والاقتداء وتفسير القرآن على وجهه الذي أنزله الله عز وجل
.
والله أعلم .
تعليق