الحمد لله.
أولاً:
ما قاله زميلك في حق نبي الله داود عليه السلام باطل منكَر ، ولا نظن مسلماً يعتقد ذلك فضلاً أن ينشره في الناس ، ولو قاله أحد فإنه يستحق القتل ، قال ابن العربي المالكي رحمه الله : " من قال إنَّ نبيّاً زنى فإنه يُقتل " .
انتهى من " أحكام القرآن " ( 7 / 73 ) .
وإنما تصدر تلك الاتهامات من كذبة أهل الكتاب الذين لا يتورعون عن اتهام الأنبياء والمرسلين بفعل المنكرات ، وهو ما عرفوه نتيجة تحريف كتبهم ، وبسبب علماء الضلالة في أديانهم .
وأما أهل الإسلام فإنهم يوقرون الأنبياء والمرسلين ويثبتون لهم كمال الأخلاق ، وقد عصمهم ربهم عز وجل من فعل الكبائر ، ولا خلاف بين علماء الإسلام في هذا .
قال ابن عطية الأندلسي – رحمه الله - :
وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ، ومن الكبائر ، ومن الصغائر التي فيها رذيلة . انتهى من " المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز " ( 1 / 221 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية
- رحمه الله - :
إن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر : هو قول أكثر علماء الإسلام
، وجميع الطوائف ، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام ، كما ذكر أبو الحسن الآمدي أن هذا
قول الأشعرية ، وهو أيضاً قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء ، بل لم يُنقل عن
السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول .
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 4 / 319 ) .
ثانياً:
أما ما جاء في كتب الإسرائيليات من وقوع نبي الله داود عليه والسلام في الزنا فهو
من القبائح المنكرة ، وهي من جملة افتراءات الكذبة على رسل الله المحرِّفين لدينهم
، فقد جاء في " العهد القديم " صموئيل الثاني ، الإصحاح الحادي عشر ( ص 498 ) ما
نصُّه : " وأما داود فأقام في أورشليم ، وكان وقت المساء أن داود قام عن سريره
وتمشى على سطح بيت الملك فرأى من على السطح امرأة تستحم ، وكانت المرأة جميلة
المنظر جدّاً ، فأرسل داود وسأل عن المرأة ، فقال واحد : أليست هذه " بَثْشَبَعَ
بنت أَلبِعَام " امرأة أُوريا الحثي ، فأرسل داود رسلاً وأخذها ، فدخلت إليه فاضطجع
معها وهي مُطهرة من طمثها ، ثم رجعت إلى بيتها وحبلت المرأة ، فأرسلت وأخبرت داود
وقالت : إني حبلى !! ... .
إلى أن قالوا – كاذبين - :
كتب داود مكتوبًا إلى " يواب " وأرسله بيد " أوريا " ، وكتب في المكتوب يقول : "
اجعلوا " أوريا " في وجه الحرب الشديدة وأرجعوا مَن وراءه ، فيُضرب ويموت ، وكان في
محاصرة " يواب " المدينة : أنه جعل أوريا في الموضع الذي علم أن رجال البائس فيه ،
فخرج رجال المدينة وحاربوا " يواب " فسقط بعض الشعب من عبيد " داود " ، ومات "
أوريا " الحثي أيضاً .
إلى أن قالوا – مفترين - :
فلما سمعت امرأة " أوريا " أنه قد مات " أوريا " رجلها ندبت بعلها ، ولما مضت
المناحة أرسل " داود " وضمها إلى بيته ، وصارت له امرأة ، وولدت له ابناً ، وأما
الأمر الذي فعله داود فَقَبح في عيني الرب ! " أ.هـ .
وقد تسرَّبت هذه القصة إلى بعض كتب التفسير التي لا يُعنى أصحابها بالتحقيق ، ولم
ينزهوا تفاسيرهم عن الإسرائيليات ، فذكروها عند قوله تعالى ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ
مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم
بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ . إِنَّ
هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ
أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ . قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ
نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ
وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ . فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا
لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) ص/ 21 – 25 .
قال ابن حزم – رحمه الله – بعد أن ساق الآيات السابقة - :
وهذا قول صادق صحيح لا يدل على شيء مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات
ولَّدها اليهود ، وإنما كان ذلك الخصم قوماً من بني آدم بلا شك ، مختصمين في نعاج
من الغنم على الحقيقة بينهم ، بغَى أحدهما على الآخر على نص الآية ، ومَن قال إنهم
كانوا ملائكة معرِّضين بأمر النساء : فقد كذب على الله عز وجل وقوَّله ما لم يقل ،
وزاد في القرآن ما ليس فيه ، وكذب الله عز وجل وأقر على نفسه الخبيثة أنه كذَّب
الملائكة ؛ لأن الله تعالى يقول ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ) فقال هو : لم
يكونوا قط خصميْن ولا بغى بعضهم على بعض ولا كان قط لأحدهما تسع وتسعون نعجة ولا
كان للآخر نعجة واحدة ولا قال له ( أَكْفِلْنِيهَا ) فاعجبوا لما يقحم فيه أهل
الباطل أنفسهم ، ونعوذ بالله من الخذلان ، ثم كل ذلك بلا دليل ، بل الدعوى المجردة
، وتالله إن كل امرئ منَّا ليصون نفسَه وجارَه المستور عن أن يتعشق امرأة جاره ثم
يعرِّض زوجها للقتل عمداً ليتزوجها ، وعن أن يترك صلاته لطائر يراه ، هذه أفعال
السفهاء المتهوِّكين الفسَّاق المتمردين لا أفعال أهل البر والتقوى ، فكيف برسول
الله داود صلى الله عليه وسلم الذي أوحى إليه كتابَه وأجرى على لسانه كلامَه ؟! لقد
نزهه الله عز و جل عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله فكيف أن يستضيف إلى أفعاله ؟! .
وأما استغفاره وخروره ساجداً ومغفرة الله تعالى له : فالأنبياء عليهم السلام أولى
الناس بهذه الأفعال الكريمة والاستغفار فعل خير لا يُنكر مِن ملك ولا مِن نبي ولا
من مذنب ولا من غير مذنب ...
وأما قوله تعالى عن داود عليه السلام ( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ )
وقوله تعالى ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) فقد ظن داود عليه السلام أن يكون ما آتاه
الله عز وجل من سعة الملك العظيم فتنة ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو
في أن يثبت الله قلبه على دينه ، فاستغفر الله تعالى من هذا الظن فغفر الله تعالى
له هذا الظن إذ لم يكن ما أتاه الله تعالى من ذلك فتنة .
" الفِصَل في الملل والأهواء والنِّحَل " ( 4 / 14 ) .
وقال ابن كثير – رحمه الله - :
قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم
حديث يجب اتباعه ، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده ؛ لأنه من رواية
يزيد الرقاشي عن أنس ، ويزيد وإن كان من الصالحين ، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة ،
فالأولى أن يُقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة ، وأن يرد علمها إلى الله عز وجل ؛ فإن
القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضاً .
" تفسير ابن كثير " ( 7 / 60 ) .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله - :
واعلم أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة، مما لا يليق بمنصب
داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كله راجع إلى الإسرائيليات، فلا ثقة به، ولا
معوّل عليه، وما جاء منه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح منه شيء .
" أضواء البيان " ( 6 / 339 ) .
وبما ذكرناه يتبين لكل منصف
أن تلك القصة القبيحة عن داود عليه السلام إنما تسربت لكتب التفسير من طريق اليهود
وكتبهم المحرَّفة المنسوبة لرب العالَمين والتي لم تأبه لمقام النبوة والرسالة
فراحوا يطعنون بصفوة خلق الله بلا حياء ولا خجل .
والله أعلم
تعليق