الحمد لله.
حرف العطف " ثم " : وإن كان يفيد الترتيب بين المتعاطفات ؛ فإنه لا يأتي دائما لإرادة الترتيب الزمني فقط ، حتى يقال - في كل موضع - إن ما قبله سابق في الزمن لما بعده ، لكنه يأتي أحيانا للترتيب الزمني ، ويأتي أحيانا للترتيب المعنوي، ويأتي أحيانا للترتيب الخبري ، بذكر الأهم من الأمور ، ثم ما يليه في الأهمية ، كما قال سيبويه رحمه الله :
" كأنّهم إنَّما يقدّمون الذي بيانه أهم لهم وهم ببيانه أغنى، وإن كانا جميعاً يُهِمّانِهم ويَعْنِيانهم ." انتهى من "الكتاب" لسيبويه (1/34) ، وينظر "بدائع الفوائد" (1/ 61).
وقال الرضيّ في "شرح الكافية" (4/390) :
" وقد تجئ (ثم) لمجرد الترتيب في الذكر، والتدرج في درج الارتقاء ، وذكر ما هو الأولى ، ثم الأولى ؛ من دون اعتبار التراخي والبعد بين تلك الدرج ، ولا أن الثاني بعد الأول في الزمان، بل ربما يكون قبله ، كما في قوله:
إن من ساد ثم ساد أبوه * ثم قد ساد قبل ذلك جده
فالمقصود ترتيب درجات معالي الممدوح ، فابتدأ بسيادته ، ثم بسيادة أبيه ، ثم بسيادة جده ، لأن سيادة نفسه أخص ، ثم سيادة الأب ، ثم سيادة الجد، وإن كانت سيادة الأب مقدمة في الزمان على سيادة نفسه ، فثم، ههنا، كالفاء في قوله تعالى (فبئس مثوى المتكبرين) .
وقد تكون ثم، والفاء، أيضا، لمجرد التدرج في الارتقاء ، وإن لم يكن الثاني مترتبا في الذكر على الأول، وذلك أن تكرر الأول بلفظه ، نحو: بالله، فبالله أو: والله ثم والله، وقوله تعالى : ( وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين) ، وقوله : ( كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون ) " انتهى .
وينظر : "الكتاب" لسيبويه (3/501) .
قال الفراء رحمه الله في توجيه الإشكال المذكور في الآية :
" وقوله (ثم اتخذوا العجل) ليس بمردود [ أي: ليس بمعطوف ] ، على قوله ( فأخذتهم
الصاعقة) ، ثُمَّ اتخذوا ؛ هَذَا مردود عَلَى فعلهم الأول .
وفيه وجه آخر: أن تجعل (ثم) خبرًا مستأنفًا، وقد تستأنف العرب بثم ، والفعل الَّذِي
بعدها قد مضى قبل الفعل الأول؛ من ذَلِكَ : أن تَقُولُ للرجل: قد أعطيتك ألفًا ،
ثُمَّ أعطيتك قبل ذَلِكَ مالا، فتكون (ثُمَّ) عطفًا عَلَى خبر المخبر ، كأنه قَالَ:
أخبرك أني زرتك اليوم ، ثُمَّ أخبرك أني زرتك أمس " انتهى من "معاني القرآن" (1/
396) .
ونظير ذلك : قول الله تعالى : ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) البقرة/ 198،
199 .
قال القرطبي رحمه الله :
" ثم" لَيْسَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّرْتِيبِ ، وَإِنَّمَا هِيَ لِعَطْفِ
جُمْلَةِ كَلَامٍ هِيَ مِنْهَا مُنْقَطِعَةٌ " انتهى من " تفسير القرطبي" (2/ 427)
.
وقال الشنقيطي رحمه الله :
" لَفْظَةُ " ثُمَّ " لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ ، بِمَعْنَى عَطْفِ جُمْلَةٍ
عَلَى جُمْلَةٍ ، وَتَرْتِيبِهَا عَلَيْهَا فِي مُطْلَقِ الذِّكْرِ " انتهى من
"أضواء البيان" (1/ 90) .
وقول الله تعالى أيضا :
( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ
* أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ
مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ) البلد/ 11 - 17 .
قال ابن جزي رحمه الله :
" ثم " هنا للتراخي في الرتبة لا في الزمان ، وفيها إشارة إلى أن الإيمان أعلى من
العتق والإطعام ، ولا يصح أن يكون للترتيب في الزمان ، لأنه لا يلزم أن يكون
الإيمان بعد العتق والإطعام ، ولا يقبل عمل إلا من مؤمن " .
انتهى من "تفسير ابن جزي" (2/ 485) .
والمقصود من ذلك كله : بيان أن العطف بحرف العطف " ثم " له أحوال ، وليس لمجرد
الترتيب الزمني فقط .
وعلى ذلك ، ففي آيات سورة البقرة : يعدد الله تعالى عليهم فضائحهم واجتراءاتهم
ومخازيهم .
أما في سورة النساء : فلما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من
السماء ، ذكر من حالهم السابق ما يناسب تعنتهم اللاحق ، بسؤالهم موسى عليه السلام
أكبر من ذلك بقولهم : أرنا الله جهرة . فأخذتهم الصاعقة .
فذِكر سؤالهم هذا مناسب لما سألوا من نزول الكتاب عليهم ، فالعناية به أولى لهذه
المناسبة ، لأن في ذلك بيانا لما هم عليه من إرادة الإشقاق والتعنت ، لا إرادة
الهداية ، ولأن فيه سلوى للنبي صلى الله عليه وسلم حين يعلم أنهم سألوا من قبله
رسولهم ، أكبر من ذلك .
ثم أعقب ذلك بما يدل على ما هم عليه من العناد والشقاق فقال : ( ثُمَّ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) .
فجاءت " ثم " لترتيب الأحداث حسب الأهم فالأهم ، والأنسب فالأنسب ، لا لإرادة
الترتيب الزمني .
راجع للفائدة جواب السؤال رقم : (125716) .
والله تعالى أعلم .
تعليق