الحمد لله.
روى مسلم (2069) عن أسماء رضي الله عنها قالت :
" هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَخْرَجَتْ جُبَّةَ طَيَالِسَةٍ كِسْرَوَانِيَّةٍ لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ ، وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بِالدِّيبَاجِ ، فَقَالَتْ: هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ حَتَّى قُبِضَتْ ، فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُهَا ، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى يُسْتَشْفَى بِهَا " .
وليس في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشفي المرضى ؛ فإن ذلك كان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، ولكن فيه أن الله تعالى جعل في آثاره صلى الله عليه وسلم كثوبه وطعامه وشرابه وشعر وماء وضوئه وبصاقه : الشفاء والبركة ، وهذا القدر حق ثابت ، لا ريب فيه ، وهذا مما خصه الله به دون غيره ، ولا غرابة في ذلك ، فكما أن الله جعل الشفاء في الدواء يتناوله المريض فيشفى بإذن الله ، فكذلك جعل آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكورة : أسبابا للشفاء ، بإذن الله ؛ فكأنها تفعل ما يفعل الدواء الحسي ، وتقوم مقامه ؛ فهي سبب حسي ، ظاهر ، جعله الله سببا لذلك ، كرامة لرسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد تقدم في جواب السؤال رقم : (10045) ، (100105) أن التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم كان معمولا به في عهد الصحابة رضي الله عنهم .
وقد بين النبي صلى الله عليه
وسلم أن الله تعالى هو الشافي وحده ، وأن الشفاء إنما يكون بتقديره سبحانه ، وما
الطبيب والعلاج والدواء إلا أسباب نصبها الله لحصول الشفاء بإذنه .
فروى البخاري (5675) ، ومسلم (2191) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَانَ إِذَا أَتَى
مَرِيضًا أَوْ أُتِيَ بِهِ ، قَالَ : ( أَذْهِبِ البَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ
وَأَنْتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ
سَقَمًا) " .
وروى البخاري (5742) عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بن صهيب قَالَ : " دَخَلْتُ أَنَا
وَثَابِتٌ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَقَالَ ثَابِتٌ: يَا أَبَا حَمْزَةَ ،
اشْتَكَيْتُ ، فَقَالَ أَنَسٌ: أَلاَ أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ: بَلَى ، قَالَ : (اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ ،
مُذْهِبَ البَاسِ ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لاَ شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ ، شِفَاءً
لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا) .
فقوله ( أنت الشافي ) ، وقوله ( لا شافي إلا أنت ) يدل على أن أحدا لا يشفي أحدا
إنما الشفاء بيد الله وحده ، قال القاري رحمه الله :
" قَالَ الطِّيبِيُّ : قَوْلُهُ : (لَا شِفَاءَ) خَرَجَ مَخْرَجَ الْحَصْرِ
تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ : (أَنْتَ الشَّافِي) ; لِأَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ إِذَا
كَانَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ أَفَادَ الْحَصْرَ ; لِأَنَّ تَدْبِيرَ الطَّبِيبِ ،
وَدَفْعِ الدَّوَاءِ : لَا يَنْجَعُ فِي الْمَرِيضِ إِذَا لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ
الشِّفَاءَ " انتهى من "مرقاة المفاتيح" (3/ 1124) .
وهذا كما جاء عند مسلم
(3005) في قصة أصحاب الأخدود في قول : ( جَلِيس الْمَلِكِ ، وكَانَ قَدْ عَمِيَ،
فَأَتَى الغلامَ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ :
" مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ، إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي ؟
فَقَالَ الغلام : إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا ؛ إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ ، فَإِنْ
أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ : دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ ؟
فَآمَنَ بِاللهِ ، فَشَفَاهُ اللهُ ...) الحديث .
فتأمل كيف نفى الغلام الذي كان يشفي الله على يديه من جميع الأدواء ، كيف نفى نسبة الشفاء إلى نفسه ، ونسبه إلى ربه ، وكذلك فعل جليس الملك لما آمن وفقه .
فالله تعالى وحده هو الشافي
، وقد جعل الشفاء في آثار النبي صلى الله عليه وسلم ، كما جعلها في العلاجات
والأدوية الحسية .
ومثل هذا لا تصح به نسبة الشفاء إلى غير الله تعالى ، بل هذا من الشرك بالله في
ربوبيته ؛ وكما لا يقال : إن الطبيب شفى المريض ، بما أجرى الله على يديه من أسباب
؛ فكذا لا يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم شفى المريض بما تفضل الله به عليه من
المعجزات والخصائص ، وخاصة بعد موته ؛ بل هذا ـ كما قدمنا ـ من الشرك بالله في
ربوبيته .
راجع جواب السؤال رقم : (158714) .
تعليق