الحمد لله.
أولا :
من الضروري في هذا الإطار التنبيه على أن القرآن الكريم نزل كتاب هداية للبشرية ، يدلهم على طريق الصلاح ، ويحذرهم من الفساد والغواية ، ويدعوهم إلى كل خير ، وينهاهم عن كل شر ، ولذلك فإن الإشارات الكونية في آيات القرآن الكريم لم تسق ليكون كتاب معلومات فضائية أو كونية ، وإنما سيقت لغرض الدلالة على الغاية الأولى ، وهي الهداية ، فلا ينبغي للمسلم أن ينسى المقصد ، ويركز على الوسيلة ، فيظن أن هذا الكتاب العظيم إنما نزل وصفا دقيقا لمظاهر الكون وأجرام السماء ، وهذا ظن خاطئ أوقع كثيرا من الناس في المبالغة ، وجر إلى كثير من الجدال العقيم الذي سببه التكلف والتنطع في فهم آيات الله سبحانه .
ثانيا :
ومع ذلك ، نحن لا نرى أنه يجوز لأحد أن ينفي اشتمال القرآن الكريم على أوصاف دقيقة
لمظاهر الكون وآيات السماء ، بل فيه من ذلك الكثير الطيب ، الذي يبهر العقول ،
ويحير الألباب ، ولا يزال يتكشف للناس منه ما يدل على أنه كلام العليم الخبير ،
الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وأن مثل هذا الكلام ، لا يقدر على
أن يأتي به أحد من البشر ، كائنا من كان .
ولكن يبقى السؤال عن مدى انطباق الآية ، أو النص القرآني ، مع اسم محدد من تلك
المظاهر ، كالثقوب السوداء مثلا ، ومن الذي يملك حق الجزم بأن دلالة الآية تنطبق
عليها .
ثالثا :
وهنا نقول : إن الآية التي يشير إليها كثير من الباحثين المعاصرين أن المقصود بها "
الثقوب السوداء " هي قول الله عز وجل : ( فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ . الْجَوَارِ
الْكُنَّسِ ) التكوير/15-16 ، فقد ذهب جمهور المفسرين من السلف وأصحاب المصنفات إلى
أن المقصود بها ( النجوم ) ، وأن المقصود بالخنس والكنس : هو ظهورها بالليل ،
وغيابها بالنهار .
فقد روى ذلك الإمام الطبري
عن علي بن أبي طالب ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، وبكر بن زيد ، كما في " جامع
البيان " (24/251-252) على اختلاف طويل في شأن الخنس والكنس ، وهل بينهما فرق ، أم
هما مترادفان ، يدلان على شيء واحد ، مع اختلاف وصفه فقط .
وذكر أقوالا أخرى عن مدرسة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، يقول فيها إن المقصود
: بقر الوحش ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما تفسيرها بالظباء .
ثم قال الطبري رحمه الله :
" أولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال : إن الله تعالى أقسم بأشياء تخنس أحيانا
: أي تغيب وتجري أحيانا ، وتكنس أخرى ، وكنوسها : أن تأوي في مكانسها ، والمكانس
عند العرب : هي المواضع التي تأوي إليها بقر الوحش والظباء ، واحدها : مَكْنِس
وكِناس .
فالكناس في كلام العرب ما وصفت ، وغير مُنكر أن يستعار ذلك في المواضع التي تكون
بها النجوم من السماء ، فإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن في الآية دلالة على أن المراد
بذلك النجوم دون البقر ، ولا البقر دون الظباء ، فالصواب : أن يُعَمّ بذلك كلّ ما
كانت صفته الخنوس أحيانا والجري أخرى ، والكنوس بآنات ، على ما وصف جلّ ثناؤه من
صفتها " انتهى من " جامع البيان " (24/254) .
رابعا :
أخذ بعض الباحثين المعاصرين بالقول الأول ، وأن المراد بالآية وصف النجوم التي تسير
في هذا الكون الفسيح ، لكن قالوا : إن وصفها بأنها خنس ، وجوار كنس ، ينطبق ، أكثر
ما ينطبق ، على نوع خاص من هذه النجوم ، تسمى " الثقوب السوداء " .
قالوا :
" سميت بالثقوب لقدرتها الفائقة على ابتلاع كل ما تمر به ، أو يدخل في نطاق
جاذبيتها ، من مختلف صور المادة والطاقة ، من مثل الغبار الكوني ، والغازات ،
والأجرام السماوية المختلفة . ووصفت بالسواد لأنها معتمة تماما ، لعدم قدرة الضوء
علي الإفلات من مجال جاذبيتها ، على الرغم من سرعته الفائقة المقدرة بحوالي
الثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية (299792,458 كم/ ث) وقد اعتبرت الثقوب
السود مرحلة الشيخوخة في حياة النجوم ، وهي المرحلة التي قد تسبق انفجارها وعودة
مادتها إلى دخان السدم ، دون أن يستطيع العلماء حتى هذه اللحظة معرفة كيفية حدوث
ذلك " انتهى من مقال للدكتور زغلول النجار .
ونحن لا نرى مانعا من أن
يكون ذلك القول محتملا ، وأن يكون الآية تدل عليه ، إما على وجه العموم لها ولغيرها
، مما يصح أن ينطبق عليه هذا الوصف ، كما هي طريقة الإمام الطبري السابق ذكرها ،
وأصله في الآية ، وهو جار على مذهب من يصحح دلالة المشترك على أكثر من معنى في
السياق الواحد ، وهو اختيار الشافعي وغيره من الأصوليين .
وإما على أن يكون المراد من هذا اللفظ العام : بعض أفراده ، كما هي طريقة من يرى أن
الآية تدل على شيء واحد من الأقوال السابقة ، والباحثون في إعجاز القرآن ، لم
يخرجوا هنا عن ذلك الأصل ، ولم يأتوا بقول جديد كل الجدة ، بل ذهبوا إلى أن المراد
بهذا اللفظ العام : بعض أفراده فقط ، وليس كل ما ينطبق عليه هذا الوصف .
ثم أضافوا فردا جديدا ، ليس بخارج ، كلية ، عن الأقوال السابقة .
ثم إن هذا القول ، لم يخرج أيضا عن مقتضى لغة العرب في معنى " الخنس" و" الكنس " ،
كما سبق ذكره ، وإن كان قد أضاف تحديدا جديدا ، أو دلل على دخول " فرد " جديد ، في
ضمن " أفراد " اللفظ " العام " : الخنس ، والكنس .
يقول ابن فارس رحمه الله :
" ( كنس ) الكاف والنون والسين أصلان صحيحان :
أحدهما : يدل على سفر شيء عن وجه شيء ، وهو كشفه .
والأصل الآخر : يدل على استخفاء .
فالأول : كَنس البيت ، وهو سفر التراب عن وجه أرضه . والمِكنسة : آلة الكنس .
والكُناسة : ما يكنس .
والأصل الآخر : الكناس : بيت الظبي . والكانس : الظبي يدخل كناسه . والكنس :
الكواكب تكنس في بروجها كما تدخل الظباء في كناسها . قال أبو عبيدة : تكنس في
المغيب " انتهى من " معجم مقاييس اللغة " (5/141) .
فقالوا : يمكن تفسير ( الكُنَّس ) على أنها جمع ( كانس ) على صيغة المبالغة ، بمعنى كأنها آلة للكنس ، تسفر وتزيل الشيء عن وجه شيء آخر وتكشفه .
وهذا كله على فرض ثبوت وجود هذا النوع من النجوم ( الثقوب السوداء )، وإلا فدلالة الآية لا تتوقف على نتائج العلوم الكونية وعلوم الفضاء ، بل هي دلالة كاملة واضحة بحمد الله ، كما ثبت نقله عن أئمة التفسير ، ولو ثبتت يقينا حقيقة تلك ( الثقوب السوداء ) فغايتها أنها تفصيل لأنواع النجوم التي تنطبق عليها الآية الكريمة ، أو ذكر لقول محتمل ، ليس من الصواب في شيء : القطع بأنه الآية تدل عليه ، ولا تدل على شيء سواه .
والله أعلم .
تعليق