الحمد لله.
لم ينكر أحد من أهل السنة والجماعة أن الاطلاع على بعض الغيب ، والإخبار عن بعض المغيبات يمكن أن يقع لأحد العلماء والصالحين على وجه الكرامة ، ولم نقف على من ينفي ذلك من المتقدمين ، بل ما زالت كتب العقائد وأبواب الكرامات في مصنفات العلماء تتناقل حكاية إخبار أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ببعض المغيبات ، كإخبار أبي بكر بجنس الحمل الذي كان في بطن زوجته ، كما في "موطأ مالك" (2/752) ، ونداء عمر بن الخطاب القائد سارية ليتحصن بالجبل ، كما رواه اللالكائي (1/120) وغيرها من الحوادث المشهورة .
وكذلك لم ينقل أحد عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إنكاره لهذا النوع من الكرامات، فقد توسع رحمه الله في مجموعة من كتبه، وهو يؤكد أن الكرامة تتعلق بشيء من علم الغيب، وقرر ذلك في "العقيدة الواسطية" التي تعد من أصول مصنفات العقائد، حيث قال فيها:
"ومن أصول أهل السنة والجماعة : التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات، في أنواع العلوم والمكاشفات ، وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين ، وسائر قرون الأمة ، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة" انتهى من "مجموع الفتاوى" (3/156) .
خير ما يشرح به كلامه هو كلامه نفسه فقد جاء في كتاب: "شرح العقيدة الواسطية من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية" ما يلي:
"وبيان هذا : أن كرامات الأولياء هي ما يكون للمؤمنين المتقين من الأمور الخارقة للعادة ، فإن الكرامة هي الأمر الخارق للعادة.
وأما أولياء الله فإنهم الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس: 63] ، فقد أخبر الله - سبحانه - أن أولياءه هم المؤمنون المتقون، وذلك في قوله - تعالى-: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس: 62 - 63] ، وهي إنما سميت بهذا الاسم؛ لأن الله يكرم"بها أولياءه المتقين وهذه الكرامات، وخوارق العادة أنواع :
الأول: "ما هو من جنس العلم كالمكاشفات"، و"هي من جنس العلم الخارق"، فإذا "كان القلب معموراً بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت" و"كلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له، وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف"، وهذا النوع من الكرامات له صور "فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره، وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومناماً، وتارة بأن يعلم ما لا يعلمه غيره وحياً وإلهاماً، أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويسمى: كشفاً، ومشاهدات، ومكاشفات، ومخاطبات. فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة. ويسمى كشفاً، ومكاشفة، أي: كشف له عنه"، "مثل قول عمر في قصة سارية، وإخبار أبي بكر بأن ببطن زوجته أنثى، وإخبار عمر بمن يخرج من ولده فيكون عادلاً، وقصة صاحب موسى في علمه بحال الغلام".
الثاني: "ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادة"، و"هي من جنس القدرة الخارقة". و"ما كان من باب القدرة فهو التأثير، وقد يكون همة، وصدقاً، ودعوة مجابة، وقد يكون من فعل الله الذي لا تأثير له فيه بحال، مثل هلاك عدوه بغير أثر منه كقوله: " من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب" ، ومثله تذليل النفوس له، ومحبتها إياه، ونحو ذلك"، ومن أمثلة هذا "قصة الذي عنده علم من الكتاب، وقصة أهل الكهف، وقصة خالد بن الوليد، وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي مسلم الخولاني، وأشياء يطول شرحها، فإن تعداد هذا مثل المطر، وإنما الغرض التمثيل بالشيء الذي سمعه أكثر الناس، وأما القدرة التي لم تتعلق بفعله، فمثل نصر الله لمن ينصره، وإهلاكه لمن يشتمه". و"كرامات الصحابة، والتابعين بعدهم، وسائر الصالحين كثيرة جداً".
الثالث: "ما هو من جنس الغناء عن الحاجات البشرية". وذلك مثل "الاستغناء عن الأكل، والشرب مدة".
وهذه الكرامات "إنما حصلت ببركة اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم"، فهي من جملة الآيات الدالة على صدق الرسول الذي اتبعوه. فإن"من آيات الأنبياء ما يظهر مثله على أتباعهم، ويكون ما يظهر على أتباعهم من آياتهم، فإن ذلك مختص بمن يشهد بنبوتهم، فهو مستلزم له، لا تكون تلك الآيات إلا لمن أخبر بنبوتهم"، و"لهذا من السلف من يأتي بالآيات دلالة على صحة الإسلام، وصدق الرسول كما ذكر أن خالد بن الوليد شرب السم لما طلب منه آية، ولم يضره"
وبالجملة فهذه الكرامات التي تجري لأولياء الله، وعباده الصالحين إنما تكون "لحجة أو حاجة. فالحجة لإقامة دين الله ، والحاجة لما لابد منه من النصر، والرزق الذي به يقوم دين الله . "
انتهى، من "شرح العقيدة الواسطية من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية" للدكتور خالد المصلح (198-201) .
فالمكاشفة بالغيب من الكرامات التي أُثرت عن سالف الأمم ، وعن سلفنا الصالحين، وهي مستمرة إلى يوم القيامة.
غير أن الفوارق المهمة التي يجب التنبه لها بين ما يقرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وعلماء أهل السنة، وبين الغلاة الذين خرجوا عن القصد في أبواب الكرامة، إلى حد الخرافة والأساطير، هي ما يلي:
أولا:
أن المكاشفة ببعض الغيب عند ابن تيمية رحمه الله إنما يقع كرامة عارضة من الله عز وجل، يُكاشَف فيها بالحادثة بعد الحادثة، وبأفراد أحوال تقع له بعض الشيء، وليس حالة دائمة ، يكون للولي المزعوم فيها اطلاع دائم على ما في اللوح المحفوظ ، أو على أمر الغيب كله ؛ حتى ليكاد أن يستوي ما للولي المزعوم فيها ، بما للخالق جل جلاله !! فالغلو في هذا الباب دفع بعضهم إلى اعتقاد أن الولي يمكن أن يكون الغيب المطلق والمقيد أمامه كالكتاب المفتوح، يقرأ منه متى شاء وكيف شاء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهذا كفر بالله عز وجل، فالعلم بالغيب كله بهذا الإطلاق لا يكون إلا لله .
يقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله:
" الخواص يجوز أن يعلموا الغيب في قضية أو قضايا، كما وقع لكثير منهم واشتهر.
والذي اختص تعالى به : إنما هو علم الجميع ، وعلم مفاتح الغيب المشار إليه بقوله تعالى: ( إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) الآية. لقمان/34" .
انتهى من "الإعلام بقواطع الإسلام" (ص/114) .
وهذا يعني أنه لا يجوز أن يقال عن أحد إنه "يعلم الغيب" هكذا بإطلاق، قال تعالى: ( قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الأعراف/ 188 .
وعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، قَالَتْ: " دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ بُنِيَ عَلَيّ َ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي، وَجُوَيْرِيَاتٌ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ ، يَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِنَّ يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى قَالَتْ جَارِيَةٌ : وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَقُولِي هَكَذَا، وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ) رواه البخاري (4001) .
وغاية ما هنالك أن الرسل والأنبياء تخبر ببعض المغيبات على سبيل المعجزة ، وكذلك يقع لبعض العلماء والأولياء، أما الغيب المطلق فهو لله وحده سبحانه وتعالى .
ولذلك : لا يجوز أن يقال إن شيخ الإسلام ابن تيمية يعلم ما في اللوح المحفوظ ، فهذا علم الله سبحانه ، ولم يحك أحد من العلماء ، سواء ابن القيم أو غيره ، أن علم اللوح المحفوظ من علوم ابن تيمية، حاشا وكلا، وغاية ما هنالك أن يكون رحمه الله قد كوشف بانتصار المسلمين في إحدى الوقعات على التتار، فهو كشف جزئي يتعلق بحدث يسير من عالم الغيب ، وهذا ما يتسق مع ما سبق تقريره.
بل من الممكن أن يقال إن معنى قول ابن تيمية رحمه الله : " كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ: أنهم مهزومون في هذه الكرة وأن النصر لجيوش الإسلام" هو الثقة بوعد الله تعالى ، وإحسان الظن به عز وجل ، وتشجيعا وتثبيتا لمن حوله في ذلك الوقت العصيب ، وليس بمعنى أن ابن تيمية اطلع حقيقة على ما في اللوح المحفوظ بناظريه، بل إيمانه بالله الذي قال: ( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) المجادلة/21 ، دفعه إلى الإخبار عن الله أنه كتب لهم النصر في المعركة . وحينئذ لا يكون في النقل أية مكاشفة ، وإنما فيه علو مقام التعبد والتأله والتعلق بالله سبحانه الذي بلغه هذا الشيخ العظيم .
وبعض أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، العارفين به ، قد حملوا ما اتفق له من ذلك ، على هذا المحمل فعلا ؛ وهم كانوا أولى بنشر فضيلة شيخ الإسلام في ذلك ، إن كانوا يرون أن في مثل ذلك فضيلة تقصد : أعني العلم بالغيب ، أو الاطلاع على اللوح المحفوظ .
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله ، وهو يتحدث عن وقعة "شقحب" :
" ووصل التتار إِلَى حِمْصَ وَبَعْلَبَكَّ وَعَاثُوا فِي تِلْكَ الْأَرَاضِي فَسَادًا، وَقَلِقَ النَّاسُ قَلَقًا عَظِيمًا، وَخَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا، وَاخْتَبَطَ الْبَلَدُ لِتَأَخُّرِ قُدُومِ السُّلْطَانِ بِبَقِيَّةِ الْجَيْشِ، وَقَالَ النَّاسُ لَا طَاقَةَ لِجَيْشِ الشَّامِ مَعَ هَؤُلَاءِ الْمِصْرِيِّينَ بِلِقَاءِ التَّتَارِ لِكَثْرَتِهِمْ، وَإِنَّمَا سَبِيلُهُمْ أَنْ يَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ مَرْحَلَةً مَرْحَلَةً، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِالْأَرَاجِيفِ فَاجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ يَوْمَ الْأَحَدِ الْمَذْكُورِ بالميدان وَتَحَالَفُوا عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَشَجَّعُوا أَنْفُسَهُمْ، وَنُودِيَ بِالْبَلَدِ أَنْ لَا يَرْحَلَ أَحَدٌ مِنْهُ، فَسَكَنَ النَّاسُ وَجَلَسَ الْقُضَاةُ بِالْجَامِعِ وَحَلَّفُوا جَمَاعَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْعَامَّةِ عَلَى الْقِتَالِ، وَتَوَجَّهَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدين بن تيمية إِلَى الْعَسْكَرِ الْوَاصِلِ مِنْ حَمَاةَ فَاجْتَمَعَ بِهِمْ في القطيعة فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا تَحَالَفَ عَلَيْهِ الْأُمَرَاءُ وَالنَّاسُ مِنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ وَحَلَفُوا مَعَهُمْ، وكان الشيخ تقي الدين بن تَيْمِيَّةَ يَحْلِفُ لِلْأُمَرَاءِ وَالنَّاسِ إِنَّكُمْ فِي هَذِهِ الكرة منصورون، فَيَقُولُ لَهُ الْأُمَرَاءُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَقُولُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَحْقِيقًا لَا تَعْلِيقًا!! وَكَانَ يَتَأَوَّلُ فِي ذَلِكَ أَشْيَاءَ مِنْ كِتَابِ الله منها قوله تعالى (وَمَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ الله) [الحج: 6 0] " انتهى من "البداية والنهاية" (14/27-28) ، وانظر (14/30) .
بل إن صاحبه ابن القيم رحمه الله ، الذي حكى النص السابق الوارد في السؤال ، إنما ذكره في باب " الفراسة" ، وليس في باب علم الغيب ، ولا ادعى له قط ـ وحاشاهما ـ أن يكون له اطلاع على اللوح المحفوظ ، أو أنه يدعي ذلك ؛ وقد قدم لتلك القصة بقوله :
" ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أمورا عجيبة. وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم. ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما" انتهى .
ومن المعلوم أن الفراسة الصادقة ، والإلهام ، والتحديث الصادق : هي من أمور الغيب النسبي ، الذي يطلع الله عليه من شاء من عباده ، كما هو مقرر في أبواب كرامات الأولياء ، كما سبق نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ؛ مع أنها في نفسها لا تكون معصومة من الخطأ ، وإن بلغ صاحبها في الولاية والعلم ، ما بلغ ، ما دام أنه ليس من الأنبياء .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله :
" ومما ينبغي أن يعلم أن سبب ضلال النصارى وأمثالهم من الغالية كغالية العباد والشيعة وغيرهم ثلاثة أشياء:
أحدها: ألفاظ متشابهة مجملة مشكلة منقولة عن الأنبياء، وعدلوا عن الألفاظ الصريحة المحكمة...
والثاني: خوارق ظنوها آيات ، وهي من أحوال الشياطين . وهذا مما ضل به كثير من الضلال المشركين وغيرهم، مثل دخول الشياطين في الأصنام وتكليمها للناس، ومثل إخبار الشياطين للكهان بأمور غائبة ، ولا بد لهم مع ذلك من كذب ، ومثل تصرفات تقع من الشياطين.
والثالث: أخبار منقولة إليهم ظنوها صدقا ، وهي كذب ...
وكذلك ما يذكرونه من خوارق العادات: إما أن يكون صحيحا قد ظهر على يد نبي كمعجزات المسيح ومن قبله ، كإلياس واليسع وغيرهما من الأنبياء ، وكمعجزات موسى : فهذه حق.
وإما أن تكون قد ظهرت على يد بعض الصالحين ، كالحواريين ، وذلك لا يستلزم أن يكونوا معصومين كالأنبياء، فإن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه ، لا يتصور أن يقولوا على الله إلا الحق ، ولا يستقر في كلامهم باطل ، لا عمدا ولا خطأ.
وأما الصالحون : فقد يغلط أحدهم ويخطئ ، مع ظهور الخوارق على يديه . وذلك لا يخرجه عن كونه رجلا صالحا ، ولا يوجب أن يكون معصوما إذا كان هو لم يدع العصمة ، ولم يأت بالآيات دالة على ذلك .
ولو ادعى العصمة وليس بنبي ، لكان كاذبا ، لا بد أن يظهر كذبه ، وتقترن به الشياطين فتضله ، ويدخل في قوله - تعالى -: هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم [الشعراء: 221] " انتهى باختصار من "الجواب الصحيح" (2/315-317) .
ثانيا:
الكرامة هبة من الله تعالى لعبده الصالح ، يقدرها الله عز وجل بإرادته متى شاء وكيف شاء في بعض الأحوال ، أما في غالب الأحوال فالولي إنما يسير وفق سنن الكون وقوانين الحياة، فقد يبتلى بالفقر أو المرض أو الجوع أو التيه أو الفقد أو القحط أو غيرها من أنواع البلاء، فيدعو ويرجو ربه كشف ما أصابه فلا يعجل الله إجابته في الدنيا؛ لأنه بشر خاضع لسنن الكون وقوانين الحياة التي أودعها ربنا سبحانه فيها.
أما الكرامة عند الغلاة فهي عصا سحرية، وحالة ثابتة، تمكن الولي من تغيير الأوضاع وخرق السنن وتجاوز حدود الطاقة البشرية، فيستعملها متى شاء وكيف شاء، بل وتضمحل معها معاني بشريته؛ لأنها ثابتة له في حياته وبعد مماته أيضا! وهذا أيضا اعتقاد يمنح الولي قدرا من صفات الربوبية، سواء صرح القائلون به أم لم يصرحوا، فهو لازم لغلوهم، بل صرح بعضهم بأن الولي الفلاني يملك "كلمة التكوين"، فإذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون.
كما فعل ابن عربي في " الفتوحات المكية " (3/428) - وتبعه عليه كثيرون - أن التصرف في الكون ممكن بالكرامة، وقال: "كما قال سيدنا أبو السعود بن الشبل، عاقل زمانه، وقد سأله بعض من لا يكتمه من حاله شيئا: هل أعطاك الله التصرف، وهو أصل الكرامات؟
فقال: نعم، منذ خمس عشرة سنة، وتركناه تظرفا، فالحق يتصرف لنا، يريد رضي الله عنه أنه امتثل أمر الله في اتخاذه عز وجل وكيلا".
ويقول الدباغ:
"إن الولي صاحب الكشف إذا نظر إلى شخص عرف حاله من سعادة وشقاوة" انتهى من "الإبريز" (ص306)
فأين هذه الدعاوى العريضة المطلقة المجازفة في كل إنسان، وفي كل الأحوال، مما سبق نقله من كرامات عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله!
الفرق بينهما واضح لا خفاء فيه .
ومن هنا قيد ابن تيمية رحمه الله إظهار الولي الكرامة للناس بعذرين: الحجة، أو الحاجة. وأما إظهارها مطلقا على سبيل القدرة والطاقة التامة فليس من مذهبه رحمه الله.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالا يدخلون بها النار، وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك. ويقولون لنا هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشرع ليس لهم أن يعترضوا علينا، بل يسلم إلينا ما نحن عليه - سواء وافق الشرع أو خالفه -.
وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم، ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله، وكان مغلوبا، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار.
فقال الأمير: ولم ذاك؟
قلت: لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع، وباطن قشر النارنج، وحجر الطلق، وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء، فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة، وظهر الحق.
فاستعظم الأمير هجومي على النار وقال: أتفعل ذلك؟
فقلت له: نعم، قد استخرت الله في ذلك، وألقى في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء؛ فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطنا وظاهرا ؛ لحجة ، أو حاجة ، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه، وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا. فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق ، بما يؤيدنا الله به من الآيات" انتهى من "مجموع الفتاوى" (11/ 459)
وتقول اللجنة الدائمة للإفتاء :
"الكرامة: أمر خارق للعادة، يظهره الله تعالى على يد عبد حي من عباده الصالحين، إكراما له، فيدفع به عنه ضرا، أو يحقق له نفعا، أو ينصر به حقا، وذلك الأمر لا يملك العبد الصالح أن يأتي به إذا أراد، كما أن النبي لا يملك أن يأتي بالمعجزة من عند نفسه، بل كل ذلك إلى الله وحده، قال الله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ولا يملك الصالحون أن يتصرفوا في ملكوت السماوات والأرض إلا بقدر ما آتاهم الله من الأسباب كسائر البشر، من زرع وبناء وتجارة ونحو ذلك مما هو من جنس أعمال البشر بإذن الله تعالى، ولا يملكون أن يشفعوا وهم في البرزخ لأحد من الخلق أحياء وأمواتا، قال الله تعالى: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا). وقال: (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وقال: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ).
ومن اعتقد في أنهم يتصرفون في الكون أو يعلمون الغيب : فهو كافر؛ لقول الله عز وجل: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وقوله سبحانه: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) ، وقوله سبحانه آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم بما يزيل اللبس ويوضح الحق: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
عبد العزيز بن باز – عبد الرزاق عفيفي – عبد الله بن غديان – عبد الله بن قعود" انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (1/574)
ثالثا:
المكاشفة بالغيب عند الغلاة أيضا مرتبة مكتسبة بالرياضة الروحية، يتطلبونها تكلفا من خلال التدرج في بعض الأعمال والتكاليف على حد زعمهم، ويكون سعي أحدهم حثيثا لبلوغ هذا الشأن كعلامة على قمة الترقي الذي يشغل عليه شأنه وأمره، وقد يستعمله في المحرمات، ويكون حظه منه الرياء والسمعة والاستعلاء على الخلق.
أما المكاشفة بالغيب عند أهل السنة والجماعة فهي تابعة لصلاح العبد وتقواه، والعبد الصالح هو الذي يعبد الله بالإيمان والإسلام والإحسان حبا له وتعظيما، وخوفا ورجاء، وليس لتحصيل مكاسب في الدنيا، ولا لتطلب خوارق العادات وعجائب المحدثات.
يقول الإمام النووي رحمه الله:
"وأما الفرق بين الولي والساحر فمن وجهين:
أحدهما: وهو المشهور، إجماع المسلمين على أن السحر لا يظهر إلا على فاسق، والكرامة لا تظهر على فاسق، وإنما تظهر على ولي، وبهذا جزم إمام الحرمين، وأبو سعد المتولي، وغيرهما.
والثاني: أن السحر قد يكون ناشئا بفعلها وبمزجها ومعاناة وعلاج، والكرامة لا تفتقر إلى ذلك، وفي كثير من الأوقات يقع ذلك اتفاقا، من غير أن يستدعيه أو يشعر به والله أعلم" انتهى من "شرح النووي على مسلم" (14/ 176)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وجميع ما يؤتيه الله لعبده من هذه الأمور، إن استعان به على ما يحبه الله ويرضاه، ويقربه إليه، ويرفع درجته، ويأمره الله به ورسوله، ازداد بذلك رفعة وقربا إلى الله ورسوله، وعلت درجته.
وإن استعان به على ما نهى الله عنه ورسوله، كالشرك والظلم والفواحش، استحق بذلك الذم والعقاب، فإن لم يتداركه الله تعالى بتوبة أو حسنات ماحية وإلا كان كأمثاله من المذنبين؛ ولهذا كثيرا ما يعاقب أصحاب الخوارق، تارة بسلبها كما يعزل الملك عن ملكه ويسلب العالم علمه، وتارة بسلب التطوعات فينقل من الولاية الخاصة إلى العامة، وتارة ينزل إلى درجة الفساق، وتارة يرتد عن الإسلام.
وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية؛ فإن كثيرا من هؤلاء يرتد عن الإسلام وكثير منهم لا يعرف أن هذه شيطانية ، بل يظنها من كرامات أولياء الله، ويظن من يظن منهم أن الله عز وجل إذا أعطى عبدا خرق عادة لم يحاسبه على ذلك، كمن يظن أن الله إذا أعطى عبدا ملكا ومالا وتصرفا: لم يحاسبه عليه.
ومنهم من يستعين بالخوارق على أمور مباحة ، لا مأمورا بها ولا منهيا عنها، فهذا يكون من عموم الأولياء، وهم الأبرار المقتصدون، وأما السابقون المقربون فأعلى من هؤلاء، كما أن العبد الرسول أعلى من النبي الملك.
ولما كانت الخوارق كثيرا ما تنقص بها درجة الرجل، كان كثير من الصالحين يتوب من مثل ذلك، ويستغفر الله تعالى، كما يتوب من الذنوب: كالزنا والسرقة. وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها، وكلهم يأمر المريد السالك أن لا يقف عندها، ولا يجعلها همته، ولا يتبجح بها؛ مع ظنهم أنها كرامات، فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها!
وقد قال تعالى: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) [الفجر: 15، 16] قال الله تبارك وتعالى: (كلا) ولفظ (كلا) فيها زجر وتنبيه: زجر عن مثل هذا القول، وتنبيه على ما يخبر به ويؤمر به بعده. وذلك أنه ليس كل من حصل له نعم دنيوية تعد كرامة يكون الله عز وجل مُكرما له بها، ولا كل من قُدِرَ عليه ذلك يكون مُهينا له بذلك؛ بل هو سبحانه يبتلي عبده بالسراء والضراء، فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه. ولا هو كريم عنده ليستدرجه بذلك. وقد يحمي منها من يحبه ويواليه ، لئلا تنقص بذلك مرتبته عنده، أو يقع بسببها فيما يكرهه منه" انتهى من " مجموع الفتاوى" (11/ 299-301)
ويقول أيضا :
" وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات وخوارق العادات إذا لم يكونوا متبعين للرسل فلا بد أن يكذبوا وتكذبهم شياطينهم. ولا بد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة؛ ولهذا تنزلت عليهم الشياطين واقترنت بهم فصاروا من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن. قال الله تعالى: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين " انتهى ، من "مجموع الفتاوى" (11/172) .
وهكذا لم نسمع عن شيخ الإسلام ابن تيمية، ولم نقرأ في سيرته وفي كتبه شيئا يدل على استغلاله هذه الكرامات والمكاشفات في تحصيل شيء من أسباب الدنيا، ولا في تطلبها وتكلف الحصول عليها، ولم نقرأ عنه يوما أنه نصح تلاميذه أو من حوله من محبيه ومريديه بما يرشدهم إلى تحقيق هذه الكرامات لأنفسهم، ولا أنه جعل ذلك هدفا أو غاية لنفسه. الأمر لا يعدو كونه تفضلا من الله سبحانه وتعالى عليه، وانقضى وانطوى.
بل إننا وجدنا العكس من ذلك تماما ، وجدناه يصحح للناس اعتقادهم الخاطئ ، وتلبيس الشيطان عليهم ، في أمور يصورها الشيطان لهم : كرامة لشيخ الإسلام ، وهي من تلبيس الشيطان على العباد ، الذي جرد شيخ الإسلام نفسه لحربه ، وبيان خطره للناس .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله :
" وتارة يستغيث أقوام بشخص يحسنون به الظن إما ميت وإما غائب فيرونه بعيونهم قد جاء ، وقد يكلمهم ، وقد يقضي بعض حاجاتهم ، فيظنونه ذلك الشخص الميت ، وإنما هو شيطان زعم أنه هو ، وليس هو إياه .
وكثيرا ما يأتي الشخص بعد الموت في صورة الميت ، فيحدثهم ، ويقضي ديونا ويرد ودائع ، ويخبرهم عن الموتى ، ويظنون أنه هو الميت نفسه قد جاء إليهم ، وإنما هو شيطان تصور بصورته.
وهذا كثير جدا ، لا سيما في بلاد الشرك ، كبلاد الهند ونحوها ...
وقد يرى أشخاصا في اليقظة ، إما ركبانا وإما غير ركبان ، ويقولون هذا فلان النبي ، إما إبراهيم وإما المسيح ، وإما محمد ، وهذا فلان الصديق ، إما أبو بكر وإما عمر وإما بعض الحواريين ، وهذا فلان لبعض من يعتقد فيه الصلاح ، إما جرجس أو غيره ممن تعظمه النصارى ، وإما بعض شيوخ المسلمين ، ويكون ذلك شيطانا ادعى أنه ذلك النبي أو ذلك الشيخ أو الصديق أو القديس.
ومثل هذا يجري كثيرا لكثير من المشركين والنصارى ، وكثير من المسلمين ؛ ويرى أحدهم شيخا يحسن به الظن ويقول أنا الشيخ فلان ، ويكون شيطانا .
وأعرف من هذا شيئا كثيرا ، وأعرف غير واحد ممن يستغيث ببعض الشيوخ الغائبين والموتى ، يراه قد أتاه في اليقظة وأعانه.
وقد جرى مثل هذا لي ولغيري ممن أعرفه ؛ ذكر غير واحد أنه استغاث بي من بلاد بعيدة ، وأنه رآني قد جئته ، ومنهم من قال: رأيتك راكبا بلباسك وصورتك ، ومنهم من قال: رأيتك على جبل ومنهم من قال: غير ذلك !!
فأخبرتهم : أني لم أغثهم ، وإنما ذلك شيطان تصور بصورتي ليضلهم ، لما أشركوا بالله ودعوا غير الله.
وكذلك غير واحد ممن أعرفه من أصحابنا ، استغاث به بعض من يحسن به الظن ، فرآه قد جاءه وقضى حاجته ، قال صاحبي: وأنا لا أعلم بذلك .
ومن هؤلاء الشيوخ من يقول : إنه يسمع صوت ذلك الشخص المستغيث به ، ويجيبه وتكون الشياطين أسمعته صوتا يشبه صوت الشيخ المستغيث له ، فأجابه الشيخ بصوته ، فأسمعت المستغيث صوتا يشبه صوت الشيخ فيظن أنه صوت الشيخ.
وهذا جرى لمن أعرفه وأخبر بذلك عن نفسه وقال: بقي الجني الذي يحدثني يبلغني مثل صوت المستغيثين بي ، ويبلغهم مثل صوتي ، ويريني في شيء أبيض نظير ما أسأل عنه ، فأخبر به الناس أني رأيته ، وأنه سيأتي ، ولا أكون قد رأيته وإنما رأيت شبيهه.
وهكذا تفعل الجن بمن يعزم عليهم ويقسم عليهم.
وكذلك ما رآه قسطنطين من الصليب الذي رآه من نجوم، والصليب الذي رآه مرة أخرى هو مما مثله الشياطين ، وأراهم ذلك ليضلهم به ؛ كما فعلت الشياطين ما هو أعظم من ذلك بعباد الأوثان." انتهى، باختصار من "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (2/319-323) .
رابعا:
كرامة المكاشفة لا تتحقق إلا لمن التزم بالشريعة، وتفقه في الدين، واستقام على أمر الله، ولم يستعلِ على الأحكام بأعذار باطنية باسم "الحقيقة"، أو "الولاية" التي تُسقط التكاليف عند الغلاة، أو تؤدي بهم إلى مناقضة الشرع باسم "الكرامة"، أو "الولاية".
فأنت حين تتحدث عن أبي بكر الصديق، أو عمر بن الخطاب، أو علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، أو زين العابدين، أو الإمام أحمد، أو الإمام عبد القادر الجيلاني، أو الإمام ابن تيمية، أو غيرهم من أئمة العلم والدين، فلن يكون حديثك – ولا شك – متساويا مع مكاشفات تنقل عن أسماء مجهولة! أو في تراجم مشبوهة! ما يُنسَب لها مما يخالف أحكام الشريعة أكثر مما يُنسب من المزايا والمناقب!
وهذا فارق مهم ينبغي استحضاره دائما، وهو ما يتحدث عنه العلماء في اشتراط الالتزام بالسنة، واجتناب البدعة، كي تتقبل دعاوى الكرامات، وتمحى من سجل الخرافات.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله :
" والأحوال التي تحصل عن أعمال فيها مخالفة السنة أحوال غير محمودة ، وإن كان فيها مكاشفات وفيها تأثيرات .
فمن كان خبيرا بهذا الباب : علم أن الأحوال الحاصلة عن عبادات غير مشروعة ، كالأموال المكسوبة بطريق غير شرعي ، والملك الحاصل بطريق غير شرعي: فإن لم يتدارك الله عبده بتوبة يتبع بها الطريق الشرعية ؛ وإلا كانت تلك الأمور سببا لضرر يحصل له .
ثم قد يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له خطؤه ، وقد يكون مذنبا ذنبا مغفورا لحسنات ماحية ، وقد يكون مبتلى بمصائب تكفر عنه ، وقد يعاقب بسلب تلك الأحوال .
وإذا أصر على ترك ما أمر به من السنة ، وفعل ما نهي عنه : فقد يعاقب بسلب فعل الواجبات، حتى قد يصير فاسقا ، أو داعيا إلى بدعة .
وإن أصر على الكبائر ، فقد يخاف عليه أن يسلب الإيمان ؛ فإن البدع لا تزال تخرج الإنسان من صغير إلى كبير ، حتى تخرجه إلى الإلحاد والزندقة ، كما وقع هذا لغير واحد ممن كان لهم أحوال، من المكاشفات والتأثيرات ، وقد عرفنا من هذا ما ليس هذا موضع ذكره.
فالسنة مثال سفينة نوح: من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق.
قال الزهري: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة .
وعامة من تجد له حالا ، من مكاشفة أو تأثير ، أعان به الكفار أو الفجار ، أو استعمله في غير ذلك من معصية : فإنما ذاك نتيجة عبادات غير شرعية ؛ كمن اكتسب أموالا محرمة فلا يكاد ينفقها إلا في معصية الله." . انتهى ، من "مجموع الفتاوى" (22/306) .
يؤكد لك هذا الفارق أن علماءنا جعلوا كرامة الأولياء هي من جملة دلائل نبوة الأنبياء، وحينئذ لا يمكن أن تصدر الكرامة إلا عن أتباع الأنبياء حقا، كما قال تعالى: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس: 62، 63] .
يقول ابن تيمية رحمه الله: "لكن كرامات الأولياء هي من دلائل النبوة، فإنها لا توجد إلا لمن اتبع النبي الصادق، فصار وجودها كوجود ما أخبر به النبي من الغيب" انتهى من "النبوات" (1/501)
ويقول رحمه الله:
"وبين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة:
منها: أن كرامات الأولياء سببها الإيمان والتقوى، والأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله. وقد قال تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) فالقول على الله بغير علم، والشرك، والظلم، والفواحش، قد حرمها الله تعالى ورسوله، فلا تكون سببا لكرامة الله تعالى بالكرامات عليها، فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، بل تحصل بما يحبه الشيطان، وبالأمور التي فيها شرك، كالاستغاثة بالمخلوقات، أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق، وفعل الفواحش، فهي من الأحوال الشيطانية، لا من الكرامات الرحمانية.
ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية ، يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء، ويخرجه من تلك الدار، فإذا حصل رجل من أولياء الله تعالى ، طرد شيطانه، فيسقط كما جرى هذا لغير واحد.
ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق ، إما حي أو ميت، سواء كان ذلك الحي مسلما أو نصرانيا أو مشركا، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث.
وأيضا كرامات الأولياء لا بد أن يكون سببها الإيمان والتقوى، فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان ، فهو من خوارق أعداء الله، لا من كرامات أولياء الله، فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة والقراءة والذكر وقيام الليل والدعاء ، وإنما تحصل عند الشرك: مثل دعاء الميت والغائب، أو بالفسق والعصيان وأكل المحرمات: كالحيات والزنابير والخنافس والدم وغيره من النجاسات ، ومثل الغناء والرقص؛ لا سيما مع النسوة الأجانب والمردان ، وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن ، وتقوى عند سماع مزامير الشيطان، فيرقص ليلا طويلا، فإذا جاءت الصلاة صلى قاعدا، أو ينقر الصلاة نقر الديك، وهو يبغض سماع القرآن، وينفر عنه، ويتكلفه، ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة عند وجده، ويحب سماع المكاء والتصدية، ويجد عنده مواجيد : فهذه أحوال شيطانية؛ وهو ممن يتناوله قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين) ؛ فالقرآن هو ذكر الرحمن ، قال الله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) يعني تركت العمل بها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: تكفل الله لمن قرأ كتابه وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة؛ ثم قرأ هذه الآية" انتهى باختصار من مجموع الفتاوى (11/ 287-302) .
خامسا:
كرامة المكاشفة السنية هي التي يخفيها صاحبها، ولا يفاخر بها، ولا ينشرها بين الناس، ولا يغرهم بقدرته على استعمالها دائما، واتصافه بها سجية ثابتة في أحواله وأعماله، بل لا يكاد يعرف بها، ولا تمثل رسالته ولا مقصده ولا سعيه، إنما تقع له عرضا ينقله بعض من شاهده، كما فعل تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية هنا، ولكن لا يعرف عنه رحمه الله أنه كان يظهر هذه الكرامات أو يفاخر بها أو يتطلبها في مجامع الناس، وليست ديدنه ولا رسالته ودعوته بين الناس.
يقول الشيخ الدكتور يوسف الغفيص حفظه الله :
" مما يعلم أن كثيراً من الصوفية زادوا في مسألة هذه المكاشفات، ولا سيما المكاشفات الأحوالية المتعلقة بالقلب أو المكاشفات العلمية، فأدخلوا على نظرهم وعلى محصلاتهم ما هو من البدع وما هو من الوهميات العلمية، وزعموا أن هذا من الأسرار أو من المكاشفات التي تحصلت لهم بفضل ولايتهم، أي: أنها من الكرامات التي تحصلت لهم بفضل ولايتهم، وهذا موجود وثابت كما ذكر المصنف رحمه الله، لكن مما يعلم أنه حصل فيه استطالة كثيرة ولا سيما عند مبتغيه.
ولذلك من فقه الكرامة أن صاحبها لا يكون متطلباً لها أو منتظراً لها، فمن تطلب الكرامة فهو في الغالب يقع عنده شيء من الفتنة، ولذلك الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما كان أحد منهم يتطلب مثل هذه الكرامة أو ينتظرها، ومن المعلوم أن كبار أئمة الصحابة ما حصل لهم شيء من هذه الكرامات الظاهرة التي تعرض لبعض الصوفية من بعدهم، مما يدل على أن مقام الكرامة ليس هو مقام الحكم على الإيمان ودرجته." انتهى ، من "شرح الواسطية" ، دورس مفرغة لفضيلة الشيخ .
أما أن ينصب نفسه مصدرا لهذه الكرامة، ولسان حاله يقول للناس أقبلوا علي ، واسألوني حاجاتكم: أقضها لكم، فالكرامات عندي لا حدود لها في التصرف بهذا الكون، فهذا النوع من الغلو مذموم عند علماء السنة والجماعة، مرفوض في أصول مذاهبهم وتأسيساتهم، ولا يمكن أن يكونوا سببا في إغواء الناس وإضلالهم ، وتعليقهم بالبشر ، بدلا من خالق البشر جل وعلا.
أما الغلاة في أبواب الكرامات فيعدون البلوغ إليها هدفا ومقصدا أساسيا، تقضى فيه الأوقات، وتمارس له الرياضات، وهي معيار النجاح في مدارج السلوك عندهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" فكل من خرج عن الكتاب والسنة وكان له حال: من مكاشفة أو تأثير؛ فإنه صاحب حال نفساني؛ أو شيطاني. وإن لم يكن له حال ، بل هو يتشبه بأصحاب الأحوال ، فهو صاحب حال بهتاني. وعامة أصحاب الأحوال الشيطانية يجمعون بين الحال الشيطاني والحال البهتاني ، كما قال تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم) ...
وهؤلاء طوائف كثيرة. فأئمة هؤلاء هم شيوخ المشركين الذين يعبدون الأصنام ، مثل الكهان والسحرة الذين كانوا للعرب المشركين ، ومثل الكهان الذين هم بأرض الهند والترك وغيرهم.
ومن هؤلاء من إذا مات لهم ميت يعتقدون أنه يجيء بعد الموت؛ فيكلمهم ، ويقضي ديونه ، ويرد ودائعه ، ويوصيهم بوصايا ، فإنهم تأتيهم تلك الصورة التي كانت في الحياة ، وهو شيطان يتمثل في صورته؛ فيظنونه إياه.
وكثير ممن يستغيث بالمشايخ فيقول: يا سيدي فلان أو يا شيخ فلان اقض حاجتي ، فيرى صورة ذلك الشيخ تخاطبه ، ويقول: أنا أقضي حاجتك وأطيب قلبك ، فيقضي حاجته أو يدفع عنه عدوه، ويكون ذلك شيطانا قد تمثل في صورته ، لما أشرك بالله فدعا غيره.
وأنا أعرف من هذا وقائع متعددة؛ حتى إن طائفة من أصحابي ذكروا أنهم استغاثوا بي في شدائد أصابتهم :
أحدهم كان خائفا من الأرمن ، والآخر كان خائفا من التتر ؛ فذكر كل منهم أنه لما استغاث بي، رآني في الهواء وقد دفعت عنه عدوه !!
فأخبرتهم : أني لم أشعر بهذا ، ولا دفعت عنكم شيئا؛ وإنما هذا الشيطان تمثل لأحدهم فأغواه لما أشرك بالله تعالى !!
وهكذا جرى لغير واحد من أصحابنا المشايخ مع أصحابهم؛ يستغيث أحدهم بالشيخ ، فيرى الشيخ قد جاء وقضى حاجته ، ويقول ذلك الشيخ: إني لم أعلم بهذا ، فيتبين أن ذلك كان شيطانا.
وقد قلت لبعض أصحابنا لما ذكر لي أنه استغاث باثنين كان يعتقدهما ، وأنهما أتياه في الهواء؛ وقالا له طيب قلبك نحن ندفع عنك هؤلاء ، ونفعل ونصنع.
قلت له: فهل كان من ذلك شيء؟ فقال: لا. فكان هذا مما دله على أنهما شيطانان؛ فإن الشياطين وإن كانوا يخبرون الإنسان بقضية أو قصة فيها صدق ؛ فإنهم يكذبون أضعاف ذلك ، كما كانت الجن يخبرون الكهان. ولهذا من اعتمد على مكاشفته التي هي من أخبار الجن كان كذبه أكثر من صدقه .
كشيخ كان يقال له: " الشياح " توبناه وجددنا إسلامه كان له قرين من الجن يقال له: " عنتر " يخبره بأشياء فيصدق تارة ويكذب تارة فلما ذكرت له أنك تعبد شيطانا من دون الله ، اعترف بأنه يقول له: يا عنتر لا سبحانك؛ إنك إله قذر وتاب من ذلك في قصة مشهورة...
ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مراد الشيطان؛ فكلما بعدوا عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وطريق المؤمنين ، قربوا من الشيطان. فيطيرون في الهواء؛ والشيطان طار بهم. ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه صرعتهم. ومنهم من يحضر طعاما وإداما وملأ الإبريق ماء من الهواء ، والشياطين فعلت ذلك ، فيحسب الجاهلون أن هذه كرامات أولياء الله المتقين؛ وإنما هي من جنس أحوال السحرة والكهنة وأمثالهم.
ومن لم يميز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية : اشتبه عليه الحق بالباطل ، ومن لم ينور الله قلبه بحقائق الإيمان واتباع القرآن ، لم يعرف طريق المحق من المبطل؛ والتبس عليه الأمر والحال ، كما التبس على الناس حال مسيلمة صاحب اليمامة وغيره من الكذابين في زعمهم أنهم أنبياء؛ وإنما هم كذابون . وقد قال صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى يكون فيكم ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه رسول الله .
وأعظم الدجاجلة فتنة " الدجال الكبير " الذي يقتله عيسى ابن مريم؛ فإنه ما خلق الله من لدن آدم إلى قيام الساعة أعظم من فتنته وأمر المسلمين أن يستعيذوا من فتنته في صلاتهم. وقد ثبت " أنه يقول للسماء: أمطري؛ فتمطر؛ وللأرض أنبتي فتنبت " " وأنه يقتل رجلا مؤمنا؛ ثم يقول له قم فيقوم؛ فيقول أنا ربك؛ فيقول له كذبت؛ بل أنت الأعور الكذاب الذي أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ما ازددت فيك إلا بصيرة ، فيقتله مرتين ، فيريد أن يقتله في الثالثة فلا يسلطه الله عليه " وهو يدعي الإلهية. وقد بين له النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث علامات تنافي ما يدعيه: أحدها أنه أعور؛ وإن ربكم ليس بأعور . والثانية أنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن من قارئ وغير قارئ . والثالثة قوله: واعلموا أن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت.
فهذا هو الدجال الكبير ، ودونه دجاجلة منهم من يدعي النبوة؛ ومنهم من يكذب بغير ادعاء النبوة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم . "
ينظر : "مجموع الفتاوى" (35/112-119) باختصار .
ولأجل ذلك ، فليست القضية في نفس وجود الخارق من خوارق العادات ، سواء كان من باب العلم والإرادة ، أو من باب القدرة والتأثير ، وإنما المعول على مصدر ذلك ، وهل هو كشف رحماني ، مستقيم مع أمر الله وأمر رسوله ، داع إلى ما جاء به نبي الله ، معظم لشرعه ، أو على خلاف ذلك .
قال ابن القيم رحمه الله :
" وللقلب من هذا الخطاب نصيب، وللأذن أيضا منه نصيب، والعصمة منتفية إلا عن الرسل، ومجموع الأمة.
فمن أين للمخاطب أن هذا الخطاب رحماني، أو ملكي؟ بأي برهان؟ أو بأي دليل؟
والشيطان يقذف في النفس وحيه، ويلقي في السمع خطابه، فيقول المغرور المخدوع: قيل لي وخوطبت، صدقت لكن الشأن في القائل لك والمخاطب، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغيلان بن سلمة وهو من الصحابة لما طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك، فقذفه في نفسك !!!
فمن يأمن القراء بعدك يا شهر؟ ." "مدارج السالكين" (1/71) .
تعليق