الحمد لله.
أولا :
ينبغي أن نفرق بين مدح شخص معين ينسب إلى التصوف والزهد ، كالجنيد بن محمد ، وأبي سليمان الداراني ، وأحمد بن أبي الحواري ، وغيرهم ممن عرف بالصلاح والعبادة ، وبين مدح الصوفية على سبيل العموم ، والحث على الانتساب إليها ، فكثير ممن نسب إلى التصوف هم من أهل الزهد والعبادة ، فيُذكرون بما يمدحون به ، مادام أن الواحد منهم لم يتلبس ببدعة ظاهرة يدعو إليها ، وخاصة أن أهل التصوف الأول كانوا يقيدون علمهم بالكتاب والسنة ، كما قال عليّ بن هارون ، ومحمد بن أحمد بن يعقوب : سمعنا الْجُنَيْد غير مرة يقول : " علمُنا مضبوطٌ بالكتاب والسنة ، من لم يحفظ الكتاب ، ويكتب الحديث ، ولم يتفقّه ، لا يُقْتَدى به " انتهى من " تاريخ الإسلام " (22/ 73) .
وقال حامد بْن إِبْرَاهِيم : قَالَ الجنيد بْن مُحَمَّد : " الطريق إِلَى اللَّه
عز وجل مسدودة عَلَى خلق اللَّه تعالى ، إلا عَلَى المقتفين آثار رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين لسنته ، كَمَا قَالَ اللَّه عز وجل: (
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) " انتهى من " تلبيس
إبليس " (ص 12) .
وقال الْحُسَيْن النوري لبعض أصحابه : " من رأيته يدعي مَعَ اللَّه عز وجل حالة
تخرجه عَنْ حد علم الشرع : فلا تقربنه ، ومن رأيته يدعي حالة لا يدل عليها دليل ،
ولا يشهد لها حفظ ظاهر : فاتهمه عَلَى دينه " .
وعن الجريري قَالَ : " أمرنا هَذَا كله مجموع عَلَى فضل واحد هو أن تلزم قلبك
المراقبة ويكون العلم عَلَى ظاهرك قائما " انتهى من " تلبيس إبليس " (ص 151) .
فمن أثنى على مثل هؤلاء لا يقال إنه أثنى على التصوف وأهله .
فالصوفية الأوائل كانوا أقرب إلى الكتاب والسنة ، ممن جاءوا بعدهم ، ونسبوا أنفسهم
إلى التصوف .
ثم .. حتى هؤلاء الأوائل قد كان لبعضهم أشياء لا يوافق عليها ، كما سيأتي في كلام
شيخ الإسلام ، ولذلك حذر منهم أئمة السلف والعلماء ، فقد نقل عن بعضهم عبارات فيها
التقليل من شأن العلم الشرعي ، ونقل عن آخرين منهم المبالغة في الزهد والتقلل من
الدنيا والتشدد في العبادة ، وهذا إن صلح لبعض الأفراد فإنه لا يصلح أن يكون منهجا
عاما للإسلام ، فإن الدنيا لا تصلح ولا تعمر بمثل هذا ، ولهذا أنكر النبي صلى الله
عليه وسلم على من أراد هذا من أصحابه ، فقال أحدهم : " أَمَّا أَنَا فَإِنِّي
أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا ، [يعني : ولا ينام] ، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَصُومُ
الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ . وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا
أَتَزَوَّجُ أَبَدًا . وَقَالَ آخر : أَنَا لَا آكُلُ اللَّحْمَ " . فَجَاءَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ ، فَقَالَ : (
أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ! أَمَا وَاللَّهِ ، إِنِّي
لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ،
وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي
فَلَيْسَ مِنِّي ) رواه البخاري (5036) ، ومسلم (1401) .
وقد نقلت عن بعضهم أيضا عبارات من باب الرموز تشبه ما يقوله الباطنية من أن
القرآن له ظاهر وباطن ، مما جعل بعض الأئمة يحذر منهم .
فقد حذر الإمام أحمد من الحارث المحاسبي ، ومن سري السقطي .
" تلبيس إبليس " (ص151- 152) .
أما الإمام مالك رحمه الله :
فقال القاضي عياض رحمه الله :
" قال المسيبي: كنا عند مالك وأصحابه حوله ، فقال رجل من أهل نصيبين : يا أبا عبد
الله ، عندنا قوم يقال لهم الصوفية ، يأكلون كثيراً ، ثم يأخذون في القصائد ، ثم
يقومون فيرقصون .
فقال مالك : الصبيان هم ؟ قال : لا .
قال : أمجانين ؟ قال : لا ، قوم مشائخ .
قال مالك : ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا " .
انتهى من " ترتيب المدارك " (2/ 53) .
وقال مروان بن محمد الدمشقي - وهو من أصحاب الإمام مالك - :
" ثلاثة لا يؤتمنون في دين : الصوفي والقصاص ومبتدع يرد على أهل الأهواء " .
انتهى من " ترتيب المدارك " (3/ 226) .
أما الإمام الشافعي :
فقال يونس بن عبد الأعلى : سمعت الشافعي يقول : " لو أن رجلا تصوف أول النهار لم
يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمق " رواه البيهقي في " مناقب الشافعي " ( 2/ 207 )
بإسناد صحيح .
وقال أيضا : " مَا لزم أحد الصوفية أربعين يوما فعاد عقله إليه أبدا " .
انتهى من " تلبيس إبليس " (ص: 327) .
وقال أيضا : " صَحِبْتُ الصُّوفِيَّةَ، فَمَا انْتَفَعْتُ مِنْهُمْ إِلَّا
بِكَلِمَتَيْنِ: سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: الْوَقْتُ سَيْفٌ. فَإِنْ قَطَعْتَهُ
وَإِلَّا قَطَعَكَ. وَنَفْسُكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ، وَإِلَّا
شَغَلَتْكَ بِالْبَاطِلِ " .
انتهى من " مدارج السالكين " (3/ 124) .
هذا ، مع أن هؤلاء الأئمة إنما تكلموا عن الصوفية الأوائل الذين لم تبلغ بدعتهم ما بلغت عند من جاءوا بعدهم ، ممن انتقص العلم الشرعي واحتقره واحتقر أهله ، أو ممن ذهب إلى القول بالحلول والاتحاد ، أو ممن ذهب إلى القول بأن الإنسان مجبور على فعله لا اختيار له ، أو ممن ذهب إلى الإباحية المطلقة والتحلل الكامل من أحكام الإسلام ، أو من المتأخرين الذين لا علاقة لهم بالزهد من الدنيا ، ولا التقلل منها ، ولا تهذيب النفس ، وإنما انحصرت صوفيتهم في الموالد التي يقيمونها ، مع عبادة الموتى ، وأصحاب الأضرحة والطواف حولها ، مع التكالب على الدنيا والحرص الشديد عليها ، وذلك يخالف منهج التصوف ذاته الذي يقول أتباعه إن الهدف منه تهذيب النفس والزهد في الدنيا .
ثانيا :
أما الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : فقد قال :
" بعث الله سبحانه وتعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى الذي هو : العلم النافع
، ودين الحق الذي هو : العمل الصالح ؛ إذ كان من ينتسب إلى الدين: منهم من يتعانى
العلم والفقه ويقول به كالفقهاء ، ومنهم من يتعانى العبادة وطلب الآخرة كالصوفية ،
فبعث الله نبيه بهذا الدين الجامع للنوعين " انتهى من " فتاوى ومسائل " (ص 31) .
فمقصوده رحمه الله - كما تقدم - : ما كان عليه أهل التصوف الأول من الزهد
والعبادة ومعالجة آفات النفس ، لا ما عليه المتأخرون منهم من البدعة والضلالة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَهَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ لَمْ يَخْرُجُوا فِي الْأُصُولِ الْكِبَارِ عَنْ
أُصُولِ " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " بَلْ كَانَ لَهُمْ مِنْ التَّرْغِيبِ
فِي أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ ، الدُّعَاءِ إلَيْهَا ، الْحِرْصِ عَلَى نَشْرِهَا
وَمُنَابَذَةِ مَنْ خَالَفَهَا ، مَعَ الدِّينِ وَالْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ : مَا
رَفَعَ اللَّهُ بِهِ أَقْدَارَهُمْ ، أَعْلَى مَنَارَهُمْ .
وَغَالِبُ مَا يَقُولُونَهُ فِي أُصُولِهَا الْكِبَارِ : جيِّدٌ ؛ مَعَ أَنَّهُ لَا
بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَ فِي كَلَامِهِمْ وَكَلَامِ نُظَرَائِهِمْ مِنْ الْمَسَائِلِ
الْمَرْجُوحَةِ ، وَالدَّلَائِلِ الضَّعِيفَةِ؛ كَأَحَادِيثَ لَا تَثْبُتُ ،
وَمَقَايِيسُ لَا تَطَّرِدُ ، مَعَ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ، وَذَلِكَ
أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " انتهى من " مجموع الفتاوى " (3/ 377) .
فيؤخذ من كلام شيخ الإسلام أن الصوفية الأوائل كانوا مستقيمين على منهج أهل
السنة والجماعة في الجملة ، وإن كان الواحد منهم لا يسلم من بعض الأشياء التي تنتقد
عليه .
فيحمل كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب على هؤلاء .
ثالثا :
كثير من أهل العلم عابوا التصوف وأهله ، وذموه ونهوا عن سلوك طرائقه المعوجة .
قال الحافظ سعيد بن عمرو البردعى : " شهدت أبا زرعة - وقد سئل عن الحارث المحاسبى
وكتبه - فقال للسائل : إياك وهذه الكتب ، هذه كتب بدع وضلالات ، عليك بالأثر
(الحديث) ، فإنك تجد فيه ما يغنيك .
قيل له : في هذه الكتب عبرة .
فقال : من لم يكن له في كتاب الله عبرة ، فليس له في هذه الكتب عبرة ، بلغكم أن
سفيان ومالكا والأوزاعي صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس، ما أسرع الناس إلى
البدع! " .
قال الذهبي رحمه الله :
" وأين مثل الحارث ؟! فكيف لو رأى أبو زرعة تصانيف المتأخرين كالقوت لأبي طالب ؟
وأين مثل القوت ؟ كيف لو رأى بهجة الأسرار لابن جهضم، وحقائق التفسير للسلمى؟ لطار
لبُّه .
كيف لو رأى تصانيف أبي حامد الطوسى في ذلك ، على كثرة ما في الإحياء من الموضوعات؟
كيف لو رأى الغنية للشيخ عبد القادر! كيف لو رأى فصوص الحكم والفتوحات المكية؟ "
انتهى من " ميزان الاعتدال " (1/ 431) .
وقال أبو بكر الطرطوشي رحمه الله :
" مَذْهَبُ الصُّوفِيَّةِ : بَطَالَةٌ وَجَهَالَةٌ وَضَلَالَةٌ ، وَمَا
الْإِسْلَامُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ " .
انتهى من " تفسير القرطبي " (11/ 238) .
وقال القرطبي رحمه الله :
" فَأَمَّا طَرِيقَةُ الصُّوفِيَّةِ : أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ مِنْهُمْ يَوْمًا
وَلَيْلَةً وَشَهْرًا ، مُفَكِّرًا لَا يَفْتُرُ، فَطَرِيقَةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ
الصَّوَابِ ، غَيْرُ لَائِقَةٍ بِالْبَشَرِ، وَلَا مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى السُّنَنِ "
.
انتهى من " تفسير القرطبي " (4/ 315) .
وانظر للاستزادة :
- " تلبيس إبليس " / لابن الجوزي .
- " ذم ما عليه مدعو التصوف " / لابن قدامة المقدسي .
- " هذه هي الصوفية " / لعبد الرحمن الوكيل .
والخلاصة :
أن أهل العلم ، وخاصة أئمة المذاهب المتبوعة ، لا يعرف عن أحد منهم أنه مدح التصوف
أو مدح أهله بإطلاق ، ولكن ربما مدحوا بعض من ينسب إلى التصوف ، لما عرف به في
الناس من الزهد والعبادة والورع ، ونحو ذلك من مكارم الصفات والأخلاق .
وانظر للفائدة إجابة السؤال رقم : (20375) ، والسؤال رقم : (166464) .
والله أعلم .
تعليق