الحمد لله.
قال الله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) المائدة/3 .
فاختلف أهل العلم في تفسير
قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) على خمسة أقوال ، قال ابن
الجوزي رحمه الله :
" وفي معنى إكمال الدين خمسة أقوال :
أحدها : أنه إكمال فرائضه وحدوده ، ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم ، قاله
السدي ، فعلى هذا يكون المعنى : اليوم أكملت لكم شرائع دينكم .
والثاني : أنه بنفي المشركين عن البيت ، فلم يحج معهم مشرك عامئذ ، قاله سعيد بن
جبير ، وقتادة .
وقال الشعبي : كمال الدين هاهنا : عزه وظهوره ، وذل الشرك ودروسه ، لا تكامل
الفرائض والسنن ، لأنها لم تزل تنزل إلى أن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فعلى هذا يكون المعنى : اليوم أكملت لكم نصر دينكم .
والثالث : أنه رفع النسخ عنه ، وأما الفرائض فلم تزل تنزل عليه حتى قبض ، روي عن
ابن جبير أيضا .
والرابع : أنه زوال الخوف من العدو ، والظهور عليهم ، قاله الزجاج .
والخامس : أنه أمن هذه الشريعة من أن تنسخ بأخرى بعدها ، كما نسخ بها ما تقدمها "
انتهى من " زاد المسير " (1/513-514) .
والراجح أن المراد من كمال الدّين في الآية : كمال أصوله ، وقواعد الأخلاق ، وكليّات الشرع ، كما ذكرنا في جواب السؤال رقم : (133393) .
وعلى ذلك : فليس في الآية
دليل على أنه لم ينزل بعدها تحليل ولا تحريم ، بل دل الدليل على خلاف ذلك ، وأنه قد
نزل بعد هذه الآية أمور من الحلال والحرام :
- روى البخاري (4605) ، ومسلم (1618) عن البَرَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ :
" آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةَ ، وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ : ( يَسْتَفْتُونَكَ
قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلاَلَةِ ) النساء/176 .
وهذا يعني أن بعض أحكام المواريث كان من آخر ما نزل من القرآن ، وهو آخر ما نزل في
قول البراء رضي الله عنه .
- ومثل ذلك ما روى أحمد (246) عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، قَالَ : قَالَ
عُمَرُ : " إِنَّ آخِرَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ آيَةُ الرِّبَا "وحسنه محققو
المسند .
- وروى البخاري (4544) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : "
آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةُ
الرِّبَا " .
- وروى أبو عبيد في " فضائل القرآن " (ص/369) عن ابْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : " آخِرُ
الْقُرْآنِ عَهْدًا بِالْعَرْشِ آيَةُ الرِّبَا وَآيَةُ الدَّيْنِ " .
وقال الطبري رحمه الله بعد أن ذكر كلام السلف في تفسير الآية :
" وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله
عليه وسلم والمؤمنين به ، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينَهم ،
بإفرادهم بالبلدَ الحرام وإجلائه عنه المشركين ، حتى حجَّه المسلمون دونهم لا
يخالطهم المشركون .
فأما الفرائض والأحكام ، فإنه قد اختلف فيها : هل كانت أكملت ذلك اليوم ، أم لا ؟
فروي عن ابن عباس والسدّي ما ذكرنا عنهما قبل .
وروي عن البراء بن عازب أن آخر آية نزلت من القرآن : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) ، ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قُبِض ، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان
تتابعًا .
فإذ كان ذلك كذلك ، وكان قوله : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلالَةِ ) آخرَها نزولا ، وكان ذلك من الأحكام والفرائض ، كان معلومًا أن معنى
قوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ، على خلاف الوجه الذي تأوَّله من تأوَّله – أعني
: كمال العبادات والأحكام والفرائض " انتهى من "تفسير الطبري" (9/ 520).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه
الله :
" قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ ( الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ ) ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ أُمُورَ الدِّينِ كَمُلَتْ عِنْدَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ، وَهِيَ قَبْلَ
مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ ثَمَانِينَ يَوْمًا ، فَعَلَى
هَذَا لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ شَيْءٌ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ،
وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِكْمَالِ مَا يَتَعَلَّقُ
بِأُصُولِ الْأَرْكَانِ لَا مَا يَتَفَرَّعُ عَنْهَا " انتهى من " فتح الباري "
(13/246) .
وينظر : " تفسير ابن عطية " (2/ 154) ، " أحكام القرآن " لابن العربي (2/ 40-41) .
والله أعلم .
تعليق