الحمد لله.
روى البخاري (3348) ، ومسلم (222) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : يَا آدَمُ ، فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، فَيَقُولُ : أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ . قَالَ : وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ قَالَ : مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ !! ) ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ ؟ ، قَالَ : ( أَبْشِرُوا ، فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلا ، وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا )، ثُمَّ قَالَ : ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ )، فَكَبَّرْنَا ، فَقَالَ : ( أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ )، فَكَبَّرْنَا ، فَقَالَ : ( أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ) ، فَكَبَّرْنَا ، فَقَالَ : ( مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلا كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ ، أَوْ كَشَعَرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ) " .
وروى عبد الله بن أحمد (27489) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآدَمَ : قُمْ فَجَهِّزْ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدًا إِلَى الْجَنَّةِ ) فَبَكَى أَصْحَابُهُ ، وَبَكَوْا ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُمَّتِي فِي الْأُمَمِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ ) فَخَفَّفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ " . وصححه محققو المسند لغيره .
ولا شك أن العلم بهذا يوجب الخوف من الله تعالى ، ولكن يجب أن لا يبلغ هذا الخوف بالإنسان حتى يصل به إلى اليأس من رحمة الله ، قال نبي الله يعقوب عليه السلام : ( يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) يوسف/ 87.
قال ابن القيم رحمه الله :
" الْخَوْفُ الْمُوقِعُ فِي الْإِيَاسِ : إِسَاءَةُ أَدَبٍ عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ ، وَجَهْلٌ بِهَا " انتهى من "مدارج السالكين" (2/ 371) .
ومن اليأس من رحمة الله - ومن سوء الظن به أيضاً - : أن يجزم الإنسان بأنه من أهل النار ..
وقد روى أحمد (8833) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي : إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ ) .
صححه الألباني في "الصحيحة" (1663) .
فعلم الإنسان بعظمة الله
تعالى وبذنوبه وتقصيره في حق الله يوجب له الخوف من الله ، من غير أن يصل إلى اليأس
من رحمة الله .
وعلمه بسعة فضل الله وعفوه وكرمه ورحمته يوجب له رجاء أن يكون من أهل تلك الرحمة
الواسعة ، من غير أن يصل إلى الأمن من مكر الله .
وبهذا يعتدل سير المسلم إلى الدار الآخرة ، فيجمع بين الخوف والرجاء ، ويجتنب اليأس
من رحمه الله ، والأمن من مكره .
فبرجاء رحمة الله يعبد المسلم ربه ويطيعه ويعمل الصالحات ، وبالخوف منه يترك معصيته
.
وقد رغب الله تعالى عباده في رحمته وفضله ورهبهم وخوفهم من عذابه .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ: ( لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ
، مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ
مِنَ الرَّحْمَةِ ، مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ) رواه مسلم (2755) .
ويجمع المؤمن مع ذلك أيضا (الخوف والرجاء) محبةَ لله تعالى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" ولهذا قال بعض السلف : من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ، ومن عبده بالخوف وحده
فهو حروري [ الحرورية : هم الخوارج ] ، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجىء ، ومن عبده
بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن .
والمقصود : أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب ؛ فإذا اقترن الخوف
جمعه على الطريق ورده إليها ، كلما كَلَّها شيء [أي : أتعبها] ، كالخائف الذى معه
سوط يضرب به مطيته لئلا تخرج عن الطريق ، والرجاء حاد يحدوها ، يطلب لها السير ،
والحب قائدها وزمامها الذى يشوقها ؛ فإذا لم يكن للمطية سوط ولا عصا يردها إذا حادت
عن الطريق : خرجت عن الطريق ، وضلت عنها .
فما حفظت حدود الله ومحارمه ، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته ؛ فمتى
خلا القلب من هذه الثلاث : فسد فسادا لا يرجى صلاحه أبدا . ومتى ضعف فيه شيء من
هذه: ضعف إيمانه بحسبه " انتهى من "مجموع الفتاوى" (15/21) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه
الله :
" الواجب على المكلف ذكرا كان أو أنثى ألا ييأس، ولا يقنط ويدع العمل ، بل يكون بين
الرجاء والخوف يخاف الله ، ويحذر المعاصي ، ويسارع في التوبة ، ويسأل الله العفو،
ولا يأمن من مكر الله ويقيم على المعاصي ويتساهل ؛ ولكن يحذر معاصي الله ، ويخافه
ولا يأمن ، بل يكون بين الخوف والرجاء " انتهى من " فتاوى نور على الدرب " (4/ 38)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" إن غلب عليه الرجاء ؛ وقع في الأمن من مكر الله ، وإن غلب عليه الخوف ؛ وقع
القنوط من رحمة الله ، وكلاهما من كبائر الذنوب " .
انتهى من " لقاء الباب المفتوح" (11/ 7) بترقيم الشاملة .
فاحذر من الشيطان فإنه يريد أن يوقعك في اليأس من رحمة الله لتترك عبادة الله ،
وبهذا تكون قد أطعت الشيطان ووقعت في شباكه .
وهذا الحديث الذي سألت عنه قد رغبنا الرسول صلى الله عليه وسلم وبشرنا في آخره كما
خوَّفنا في أوله ، ليكون ذلك دافعا لنا إلى الاجتهاد في طاعة الله وإحسان الظن به ،
والابتعاد عن معصيته ، وبهذا ينتفع الإنسان بالموعظة التي يسمعها .
قال ابن القيم رحمه الله :
" الِانْتِفَاعُ بِالْعِظَةِ [الموعظة] : هُوَ أَنْ يَقْدَحَ فِي الْقَلْبِ قَادِحُ
الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ ، فَيَتَحَرَّكَ لِلْعَمَلِ ، طَلَبًا لِلْخَلَاصِ مِنَ
الْخَوْفِ ، وَرَغْبَةً فِي حُصُولِ الْمَرْجُوِّ.
وَالْعِظَةُ هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ ، الْمَقْرُونُ بِالتَّرْغِيبِ
وَالتَّرْهِيبِ " انتهى من "مدارج السالكين" (1/ 442) .
نسأل الله تعالى أن ييسرنا لليسرى وأن يجنبنا العسرى .
والله أعلم .
تعليق