الخميس 20 جمادى الأولى 1446 - 21 نوفمبر 2024
العربية

أبحث عن دين صحيح ، وقد وجدت في الإسلام ضالتي

232218

تاريخ النشر : 08-07-2015

المشاهدات : 29768

السؤال

أنا فتاة اسمي **** ، أعجبت حقا بالإسلام ، ولكن لدي بعض الأسئلة: إذا كان الزواج والأطفال مكتوبا في اللوح المحفوظ ، أي إذا كانت الطفلة تولد باسم معين ، أو محمد يتزوج جوليا، وإذا كتب له الطفل وهو في بطن أمه ، إذا لماذا هو مخير؟ وإذا قدر الله المشكلات التي ستحدث ، فعلى أي أساس يقدر شقيا أو سعيدا ؟ وهل الله قد كتب على شخص معين أنه الدجال حسب ذنوبه مثلا، أو أنه تجسد لإبليس؟ وهل الله يعلم ما سوف نفعل وقد كتبه ، أم فقط يعلمه ؟ أتمنى حقا الإجابة ؛ لأنني لا أشعر أنني على الدين الصحيح الذي هو المسيحية ، وحاليا أبحث في الأديان الأخرى ، وقد أعجبت بالإسلام حقا.

الجواب

الحمد لله.

، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، خاتم الأنبياء ، وعلى أخيه عيسى ابن مريم ، وعلى سائر أنبياء الله ورسله الكرام .
وبعد ، فلقد سررنا كل السرور يا أمة الله أنك راسلت الموقع ، برسالة يظهر منها صدق العاطفة ، والرغبة الحقيقية في الوصول إلى نور الهداية ، ونسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يوفقنا لما فيه خيرنا وخيرك في الدنيا والآخرة ، وأن يشرح صدرك بنور الإيمان والهدى للدين الحق .
***
يا أمة الله ، اعلمي ـ أولا ـ وقبل كل شيء : أن أساس الدين الذي يتدين به العباد لربهم ، وأساس الإيمان برب العالمين ، ومالك الملك : أن نعلم علم اليقين ، ونؤمن بأن هذا الرب : إله واحد ؛ لا ولد له ، ولا زوجة له ، ولا ند له ، ولا شريك له في ملكه وسلطانه ؛ وهذه القضية الكبرى تلخصها سورة قليلة الكلمات في كتاب الله الكريم ، لكنها تحوي ذلك المعنى العظيم ، وهي تسمى عندنا : "سورة الإخلاص"، قال الله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .
وهذا المعنى العظيم الجليل : مغروس في فطر بني آدم ، إذا تركت على حالها التي فطرها الله عليها ، من غير إفساد لها بالتعاليم الباطلة !!
( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) سورة الروم /27-31 .
إن الله تعالى قد خلق عباده ، وغرس فيهم الفطرة النقية التي يحبها ، فطرة التوحيد الخالص ، فطرة الملة الحنيفية ؛ ولو أنهم تركوا على هذه الخلقة الأصلية ، لما أشركوا ؛ لكن شياطين الإنس والجن تخطفتهم عن ذلك الصراط المستقيم ، ورمت بهم في ظلمات الشرك ، والملل المتعرجة عن صراط الله المستقيم .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ ) ثُمَّ يَقُولُ: أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) الروم/ 30] الْآيَةَ " .
رواه البخاري (1358) ، ومسلم (2658) .
وقوله : (بهيمة جمعاء) تامة الأعضاء مستوية الخلق ، (تحسون) تبصرون. (جدعاء) مقطوعة الأذن أو الأنف أو غير ذلك أي إن الناس يفعلون بها ذلك فكذلك يفعلون بالمولود الذي يولد على الفطرة السليمة ، (اقرؤوا إن شئتم) أن تتأكذوا هذا المعنى. (فطرة الله) ملة الإيمان والتوحيد ومعرفة الخالق سبحانه.
وقال الله تعالى ، في حديثه القدسي ـ ليس هذا النص من آيات القرآن الكريم ، وإنما هو وحي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ـ : (.. وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا ) .
***
إن كل من يؤمن بالله جل جلاله ، من أهل الأديان والملل : يعلم أن الله ـ الله وحده ـ هو الذي خلق الخلق كله ، وهو مالك الملك كله ، لم يساعده أحد في خلق الخلق ، فالله : قوي ، ؛ لم يشاركه في ملكه أحد ؛ فالله غني . هو الله الواحد القهار ؛ فكيف يكون المخلوق الضعيف ، شريكا للمالك الخالق القوي ، الواحد القهار ؟!
( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) سورة الرعد/16 .
إن الترتيب الطبيعي في ذرية بني آدم : أن يتزوج الرجل ، لأنه محتاج إلى الزوجة ، وهي كذلك محتاجة إليه ، إن الدافع الغريزي عند الجنسين : هو الحاجة الدافعة لهما : لأن يقترنا ، ويتزوجا ...
والرغبة في "البقاء" و"الاستمرار" ، و"الوراثة" ، "والتقوِّي" : هي دوافع الوالد ، لأن يحرص على أن يكون له ولد !!
والله جل جلاله : حي لا يموت ، قيوم لا ينام ..
والله جل جلاله : باق ، أزلا ، وأبدا ، منزه عن معاني الفناء ، والزوال : ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) سورة الحديد/1-3 ؛ هو الأول : فليس قبله شيء ، وهو الآخر : فليس بعده شيء .
هو الظاهر : فليس فوقه شيء ، وهو الباطن : فليس دونه ، ولا أقرب منه شيء .
والله جل جلاله : هو القوي المهيمن على أمر كونه ، هو الكبير المتعال ؛ هو الغني ، فلا يحتاج إلى غيره ، فالحاجة ضعف ، لا يليق بالإله .
إن كل من يبحث عن "الولد" ، إنما يبحث عنه : لحاجته إلى ذلك الولد .
حاجته المادية ، أو حاجته النفسية ، حاجته إذا كبر ، وضعف من أثر السنين ، حاجته لأن يستمر نوعه ، ويبقى نسله ، وذكره : إذا مات .
والله غني عن أن يحتاج إلى أحد ، إن الخالق : لا يحتاج إلى مخلوقه .
( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) سورة البقرة/255
إن من يبحث عن الولد ، لا بد أن تكون له زوجة .
والله جل جلاله : منزه عن أن يحتاج إلى "زوجة" :
( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) سورة الأنعام/101.
والصاحبة : هي الزوجة .
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ) سورة الجن/1-3 .
لقد كان رجل من العرب ، كبير القدر في قومه ، كريما ، حسن الأخلاق ، مُمَدَّحا ، لكنه على دين أبيه : النصرانية .
لما سمع برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد جاء لدعوة قومه إلى الإسلام ، ونشر الدين في قبيلته : هرب منه إلى أقاصي جزيرة العرب ، لكنه بعد ذلك لم يطل مقامه ، بل قرر أن يعود ، ويلتقي بالنبي الجديد ، محمد صلى الله عليه وسلم ، ويسمع منه ، وجها لوجه ، قال عدي ، صاحب القصة :
" لَمَّا بَعَثَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَرْتُ مِنْهُ ، حَتَّى كُنْتُ فِي أَقْصَى أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا يَلِي الرُّومَ ، قَالَ: فَكَرِهْتُ مَكَانِي الَّذِي أَنَا فِيهِ ، حَتَّى كُنْتُ لَهُ أَشَدَّ كَرَاهِيَةً لَهُ مِنِّي مِنْ حَيْثُ جِئْتُ ، قَالَ: قُلْتُ: لَآتِيَنَّ هَذَا الرَّجُلَ، فَوَاللهِ لَئِنْ كَانَ صَادِقًا ، فَلَأَسْمَعَنَّ مِنْهُ ، وَلَئِنْ كَانَ كَاذِبًا ، مَا هُوَ بِضَائِرِي ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، وَاسْتَشْرَفَنِي النَّاسُ، وَقَالُوا: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ ثَلَاثَ مِرَارٍ ، قَالَ: فَقَالَ لِي : ( يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ أَسْلِمْ تَسْلَمْ ) ، قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي مِنْ أَهْلِ دِينٍ ، قَالَ: ( يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ ) ، قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي مِنْ أَهْلِ دِينٍ ، قَالَهَا ثَلَاثًا ، قَالَ: ( أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ )، قَالَ: قُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي؟ قَالَ: ( نَعَمْ )..." . رواه أحمد في "المسند" (19378) .
وسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن سبب فراره منه :
" فَقَالَ لَهُ: ( يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ مَا أَفَرَّكَ [ يعني : ما دعاك إلى الهرب والفرار ] أَنْ يُقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ فَهَلْ مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ ؟ مَا أَفَرَّكَ أَنْ يُقَالَ : اللهُ أَكْبَرُ ؟ فَهَلْ شَيْءٌ هُوَ أَكْبَرُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ ) قَالَ: فَأَسْلَمْتُ، فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ اسْتَبْشَرَ ". رواه أحمد في "المسند" (19381) .
***
لقد قدمنا بهذه المقدمة ، قبل أن نجيب عن أسئلتك ، لأن لها تعلقها مباشرا بها ، كما سنوضح في جوابنا ، إن شاء الله .
ومن هنا نعود معك إلى تساؤلات ، واستفساراتك :
إن مشكلة "القدر" ، و"الجبر" و"الاختيار" تقلقك ، وتثير شيئا من حيرتك .
فنقول لك هنا :
نعم ؛ إن الله قد علم كل شيء ، علم كل ما يتعلق بأمر خلقه ، وهذا أمر منطقي جدا ؛ كيف يصنع الصانع صنعة ، ويجهل حالها ؟! ( وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) سورة الملك /13-14 .
وقد امتلأ كتاب الله ، القرآن الكريم ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بتقرير هذا الأصل العظيم ، بل هكذا جاءت الشرائع السماوية ، مقررة لذلك الأصل العظيم : أن الله عالم الغيب والشهادة ، وأنه بكل شيء عليم : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) البقرة/29 .
( قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) الحجرات/16 .
ثم نخبرك أيضا بأصل عظيم مقرر : أن الله جل جلاله ، بعلمه السابق في كونه قد كتب في اللوح المحفوظ عنده : كل ما يكون من أمر خلقه ، في أمر دينهم ، ودنياهم ، من قبل أن يخلق هذا الخلق ، وهذا مقرر ـ كذلك ـ بوضوح ، في كتاب الله ، بل وفي كتبه السماوية قاطبة .
قال الله تعالى : ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) الأنعام/59 .
وقال تعالى : ( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) يونس/61 .
وقال تعالى : ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) سورة الحج/70 .
وقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) رواه مسلم (2653) .
إن هذا أصل عظيم ، لا يصح لأحد إيمانه ، حتى يؤمن به : الإيمان بالقدر ، خيره وشره ، وحلوه ، ومره !!
***
لو كان في الإيمان بعلم الله السابق ، وكتابته السابقة لكل شيء ، لو كان فيه إشكال ، أو صعوبة ، لما كان التأكيد عليه ، وبكل هذا الوضوح في كتاب الله ، في آيات ، لا نستطيع أن نوردها نحن في هذا الجواب ، لكثرتها .
لكن ينبغي أن تعلمي ـ يا أمة الله ـ أن القدر هو "فعل الله" في خلقه .
هو من أمور "عالم الغيب" الذي لم نطلع من أسراره ، إلا على القليل ، قال تعالى : ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ) الإسراء/85
إن معرفته : ليست قضية تجريبية ، ولا مسألة فيزيائية ، تخضع للتجارب المعملية ، وتحليل العقل البشري ، وأدلته التي يستدل بها على الحسيات .
إنه "عالم غيبي" ، ليس القلق ، ولا الحيرة ، ولا الاضطراب ، بل ولا النظر العقلي المجرد ، ولا الحسي ، ولا التجريبي ... ليس شيء من ذلك كله مما يمكن أن يوصل فيه إلى الهدى ، والطمأنينة .
فليس لهذه الراحة ، ولا لتلك السكينة والطمأنينة ، من سبيل : سوى الإيمان ، والإيمان فقط ..
الإيمان برحمة أرحم الراحمين ، الذي وسعت رحمته كل شيء ... فكما نؤمن بأن الله تعالى قد علم أعمال العباد ، وكتب مقادير الخلائق ؛ فإننا نؤمن ـ أيضا ـ بأنه كتب أمرا آخر : ( قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) الأنعام/12 .
وقال تعالى : ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) الأنعام/54 .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْخَلْق َ، كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي ) . رواه البخاري (3194) ، ومسلم (2751) .
والإيمان بعدل الله الكامل التام ، كما يليق بعظمته وجلاله ، وكماله ، وجماله ، سبحانه :
( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) يونس/44 .
( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) النساء/40.
وقال تعالى : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) الأنبياء/47 .
الإيمان بأن الله هو الغني ، الحميد ، هو غني سبحانه عن خلقه ، وغني عن أعمالهم ؛ فلأي شيء يظلمهم ، وما حاجته إلى ذلك ، سبحانه ؟ ثم هو الحميد ، أي : المحمود ، المحمود في خلقه ، وفي كل فعله ؛ منزه عن ذلك كله :
قال الله تعالى : ( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ) النساء/147.
***
ما حاجة "الإله" إلى أن يظلم الناس ، وهم خلقه ، وعبيده ؟
ما حاجته إلى أن يحاسبهم على أمر ليس في مقدورهم ، وليس من سعيهم وعملهم ؟!!
ما حاجته إلى أن يوقعهم في الآثام والمعاصي .. ولا حيلة لهم فيها ؛ ثم هو يحاسبهم على : "ما ليس من ذنبهم" ؟!
إن هذه "السادية" ، و"شهوة الانتقام" ، و"التلذذ بالآلام" : إنما تليق بالمرضى من الناس ، وشواذ الجبارين ... إن هؤلاء إنما يليق بهم : أن يعالجوا من مرضهم ... ويعاقبوا على جرائمهم !!
أما أرحم الراحمين ، ورب العالمين الذي نعرفه ، ونؤمن به : فقد أمننا من الظلم ، ولو بأدنى ، أدنى المثاقيل :
( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) الأنبياء /47 .
لقد لخص لنا أساس العلاقة بينه وبين المؤمنين به ، بأنه : ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) المائدة /54 .
وذكر لنا رسوله صلى الله عليه وسلم ، أن الإيمان الحقيقي إنما تظهر حلاوته في القلوب ، إذا حقق هذه المحبة :
( ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ) .
رواه البخاري (16) ، ومسلم (43) .
***
إن الإيمان ، والإيمان فقط ، واطراح الشكوك جانبا ، وعدم تمكينها من القلب هو طريق الراحة ، والسكينة في هذا الباب :
( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) التغابن/11
وذلك شأن المؤمن ، والمؤمن فقط : تصيبه المصيبة ، كما تصيب الناس ؛ فيعلم أنها بقضاء الله وقدره ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه : فيرضى ويسلم ؛ وفي هذا ـ فقط ـ : هداية قلبه ، وراحته ، وسكينته .
ولأجل ذلك ، كان يقول معاذ بن جبل ، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، في كل مجلس يجلسه مع أصحابه ، يذكرهم ، ويؤدبهم بما يريحهم : " اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ ؛ هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ " !! رواه أبو داود (4611) .
***
نعم ؛ يا أمة الله ، إن الله قد علم كل شيء ... وقد كتب كل شيء .
فما الذي يضر الناس في ذلك ؟
إنما مثل ذلك ، كمثل مدرس يعلم تلاميذه طول العمر ، يعلم المجد منهم ، والمهمل ..
المجتهد ، إنما يجتهد : بعمله ، وتعبه ، واجتهاده ..
والمهمل : إنما يهمل هو ، بتضييعه ، وتفريطه ..
كم من المعلمين من يقول عن فلان المهمل ، من أول أمره ، وقبل أن يصحح له ورقة اختباره: هذا راسب !! فإنه يعلمه ، ويراه طول العام ، بل طول الأعوام ..
وربما كتب المدرس في روقة عنده ، خاصة به ، لم يُطْلع عليها أحدا : هذا راسب .. هذا ناجح ..
لكن هذا الطالب : لن يحاسب ـ قط ـ إلا على ما كتبه فعلا ، في ورقة الاختبار ..
لن يحاسب إلا على أجوبته الفعلية ..
لن يحاسب إلا على صواب نفسه .. أو خطئها ..
ولله المثل الأعلى في السموات والأرض .. هو أولى بكل جميل ..
هو يعلم شأن عباده كلهم .. فهو خالقهم ... وكتب ما علمه هو من أعمالهم ..
لكنه لن يحاسبهم على ما كتبه عليهم من قبل أن يخلقهم ..
إنما يحاسبهم على ما يفعلونه هم ، يفعلونه بمحض إرادتهم ، وعندهم القدرة التامة على اختيار ما يختارونه من الخير ، أو الشر ، كما يشعر كل إنسان في قرارة نفسه ، ويوقن بذلك .
إن علم الله السابق ، وكتابه : كالسماء التي فوقنا ؛ ليس بمقدورنا أن نخرج من سقفها ، فهي أوسع منا ، نحن نتحرك في حدودها ، مهما ذهبنا يمينا ، أو شمالا ..
لكن هذه السماء : لا تجبرنا على حركة معينة ، إنما نحن نختار حركتنا ، وسعينا ، وقيامنا ، وقعودنا ..
***
إن مشكلة القدر ، والحيرة فيه : هي طريق البطالين ؛ لا يريدون عملا ، ولا سعيا ، لا يتعبون في طلب حق ، ولا ترك باطل ، ثم هم يلومون الله جل جلاله ، وهو أولى بكل جميل ، ويريدون أن يبرئوا أنفسهم من جزاء سعيها ، وعملها !!
إن بإمكاننا ، إذا كنا نؤمن بالله حقا ، ونؤمن بكماله ، وجلاله ، وجماله ، ومتى كنا جادين في النظر إلى ذلك : أن نفترض أمرا آخر ، سوى مراد البطالين ، واختيارهم :
أن نختار أن الله قد كتبنا في اللوح المحفوظ : مؤمنين ، صالحين ، موقنين ، مصدقين ..
فلماذا نفترض الأسوأ ، إذا كنا لا نعلم ـ حقا ـ ما الذي كتب في هذا اللوح المحفوظ ؟
أليس الله هو أولى بالجميل ؟
إن الله تعالى يقول ـ في حديثه القدسي ـ : ( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي )
رواه البخاري (7405) ، ومسلم (2675) .
فلماذا لا يكون الواحد منا : حسن الظن بربه ، ويفترض أنه كتبه مؤمنا ... ثم يسعى في طريق الإيمان ، وهنا يسجل بعمله الصالح ما يحاسب عليه عند ربه :
( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) الإسراء/18-20 .
وقال تعالى : ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى) الليل/1-13 .
لم تتبين هذه العلاقة بين "الشرع" الذي أمرنا باتباعه ، وتنفيذ تكاليفه ، وبين "القدر" الذي أمرنا بالإيمان به ؛ لم تتبين جيدا لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فظن أن "الكتاب" السابق : كاف وحده ، ما دام كل شيء قد علم ، وفرغ من كتابته ؛ فما فائدة العمل إذا ؟
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:" كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ، فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الأَرْضَ ، فَقَالَ: ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ العَمَلَ؟ قَالَ: ( اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ )، ثُمَّ قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى [الليل: 6] الآيَةَ " . رواه البخاري (4949) ، ومسلم (2647) .
إن مدار القضية كلها : على سعي العبد ... وعمله ؛
فأهل الجنة يقال لهم : ( سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) النحل/32 .
وأهل النار يقال لهم : ( ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) يونس/52 .
فلا يرجوَنَّ عبد ... إلا ربَّه ؛
ولا يخافَنَّ .. إلا ذنبه ؛
ولا يلومنَّ .. إلا نفسه !!
***
يبقى سؤال أخير ، حول هذه المشكلة : أن الشخص يولد في بيئة لا يختارها هو ، ولأبوين لا يختارهما هو ؛ قد يكونان يهوديين ، نصرانيين ، مجوسيين ، فيغيران في الولد الصغير دينه الحق ، وينقلانه عن الملة الحنيفية التي خلقه الله عليها ، فيبقى الغلام الصغير : يهوديا ، أو نصرانيا ؛ ثم هو يحاسب على ذلك ؟!
وللجواب عن ذلك نقول :
إننا إذا استحضرنا الأصول التي أسلفناها في طول هذا الجواب ، وعلمنا أنه الله : أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين ، لا يظلم الناس شيئا ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون ، شكور حليم ، يقبل القليل ، ويعطي الكثير .... إذا علمنا ذلك كله ، وغيره من أصول الإيمان : هان علينا كل جواب ؛ وعلمنا أنه : لن يهلك على الله إلا هالك ؛ أي : يستحق الهلاك ـ حقا ـ بعمله ، وسعي نفسه .
إننا نذكر هنا أصلا مهما ـ أيضا ـ : أن الله عز وجل إنما يحاسب عباده على أعمالهم وذنوبهم ومعاصيهم : متى قامت عليهم الحجة ، وبلغتهم دعوة الرسل ، ثم اختاروا هم أن يكفروا برسل الله ، متى لمع لأعينهم نور الإيمان ، فغطوا أبصارهم ، وآثروا ـ هم ـ أن يعيشوا في الظلام ..
قال الله تعالى : ( وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) النساء /164-165 .
وقال تعالى : ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) الإسراء/13-15 .
فمن سمع بأن الله بعث نبيا ، بعد عيسى ابن مريم عليه السلام ، وقد عرف أنه يدعو إلى دين جديد من عند الله ؛ وجب عليه أن يبحث عن دين هذا النبي الخاتم ، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يتعرف عليه ، ويدع عنه : تقليد الآباء والأمهات ، وآثار البيئة التي نشأ فيها ، ويتخلص من كل هذه العقبات ، ويتعرف على ذلك النور الجديد بنفسه .. فهو المسؤول عن ذلك ، وهو المحاسب عليه ، ولن ينفعه شيئا عند الله أن يقول : لقد نشأت في بيئة يهودية ، أو نصرانية ... أو غير ذلك ، فإن هذه الحجة الباطلة ، هي حجة كل الأقوام مع أنبيائهم ، ولو كانت مقبولة ، لما كان هناك معنى لإنزال الكتب ، وإرسال الرسل .
قال الله تعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ) المائدة/104.
وقال تعالى : ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) الزخرف/22-25 .
وأما من لم يسمع بأن نبيا آخر قد بعث بعد نبيه ، ولم تبلغه رسالته ، وعاش على دينه الذي نشأ فيه ، يعبد الله تعالى بما بلغه ، وتمكن من علمه : فهذا معذور ، إن شاء الله ، وأمره في الآخرة إلى أرحم الراحمين ، وأحكم الحاكمين .
ومثل ذلك أيضا : من لم يسمع شيئا عن الرسل ، أو الرسالات كلها .. فهذا لم تقم عليه الحجة في الدنيا ، وأمره في الدار الآخرة إلى أرحم الراحمين ، وأحكم الحاكمين .
ومثل ذلك أيضا : من مات صبيا صغيرا وقد غيَّر أبواه فطرته ، فكان يهوديا أو نصرانيا أو بوذيا ... إلخ . فهذا معذور ، إذ لم يكن عنده من العقل ما يدرك به بطلان الدين الذي هو عليه ، ولم تكن قوته العقلية تمكنه من البحث عن الدين الحق والوصول إليه .
أما من كبر وبلغ سن التكليف (وأقصاه خمس عشر سنة) واكتفى بتقليد الآباء فهو غير معذور ، فقد أعطاه الله أدوات الفهم والعلم والإدراك (العقل والسمع والبصر والكلام) وحفظ له القرآن الكريم كما أنزله الله بلا تحريف ولا زيادة ولا نقصان ، وحفظ له أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كما قالها ، بألفاظها وحروفها، حتى يتأمل القرآن الكريم والأحاديث النبوية فيصل إلى الحق .
نعم ؛ هنالك صعوبات أمام تحقيق ذلك ..
نعم ، هنالك متاعب ..
نعم ؛ هنالك آلام ، محن ، ابتلاءات ، عقوبات ، تهديدات ...
هناك كل ذلك .. وغير ذلك ..
لكن ـ أيضا ـ : هناك جنة عرضها السموات والأرض ... فيها من أنواع النعيم : ما لاعين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .. خلود بلا موت ، ورزق ما له من نفاد ، ولا هلاك .. نعيم لا بؤس فيه ، صحة لا سقم فيها ، ولا ألم ، ولا هم ، ولا حزن ...
وإنما الدنيا أيام قلائل ... ومتى كانت المهمات ، والمطالب العاليات الجليلات : يدركها الناس بالراحة ، ومن غير مكابدة أو مشقة ؟
( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) آل عمران/142.
وقال تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) آل عمران/200 .
إن طريق الجنة : صعب .. محفوف بالمكاره ... لكن قد وعد الله من صبر على ذلك أن يوفقه في السلوك : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت/69 .
وهنا ـ أيضا ـ يزداد أجر من آمن بنبي وكتاب سابق ، فعاش دهره يهوديا ، أو نصرانيا ، ثم علم بدين الله الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، واتبعه ... فهذا له أجران :
قال رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ : رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ ، وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللهِ تَعَالَى وَحَقَّ سَيِّدِهِ ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَغَذَّاهَا، فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا، ثُمَّ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ ) . رواه البخاري (3011) ، ومسلم (154) .
***
وأخيرا .. إننا نوافقك تمام الموافقة على قولك : إنك تشعرين بأنك لست على الدين الصحيح – ولستِ أول من يشعر بهذا الشعور من أتباع الدين المسيحي ، فقد سبقك الملايين ، وكان منهم قساوسة وعلماء لاهوت وصلوا لأعلى المراتب الكنسية في بلادهم ، قادهم بحثهم عن الدين الحق إلى التخلي عن دينهم واعتناق الإسلام ، وكتبوا في ذلك كتبا ، وعقدوا مناظرات ، وصار بعضهم من أشهر دعاة الإسلام ، ليس في العصر الحديث فقط بل كان ذلك على مدار أربعة عشر قرنا ، وهي عمر الإسلام .
ويمكن بأدنى بحث في الإنترنت الوصول إلى هؤلاء وأقوالهم ومقارنتهم بين الإسلام والنصرانية وسبب تحولهم إلى الإسلام ، ونسأل الله تعالى أن يقودك بحثك عن الدين الحق إلى النتيجة نفسها التي وصوا إليها .
ونحن ـ من جهتنا ـ نرجو منك أيتها السائلة المكرمة ، أن يبقى الحوار بينا ، متى شعرت أنك بحاجة إلى توضيح شيء مما سبق إجماله ، أو إجابة عما عندك من تساؤلات إلى أن يشرح الله صدرك للهدى ودين الحق .. وبعدها تكونين معنا ، كسائر إخواننا وأخواتنا من المسلمين ، متى احتجت إلى معرفة شيء ، أو الجواب عن شيء مما يتعلق بدينك .
نسأل الله أن يشرح صدرك ، ويهدي قلبك ، ويرزقك إيمانا لا ريب فيه ، ويثبتك عليه حتى الممات .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب