الحمد لله.
ليس كل ما في التوراة والإنجيل من أحكام وشرائع ، منسوخا بالقرآن ، كما أنه ليس كل ما فيهما قد ناله التحريف والتبديل من جهة أهل الكتاب ، فهناك من الحق ما هو موجود في الكتابين ، وقد جاء القرآن مصدقاً لذلك الحق ، كما قال تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) المائدة : 48 .
قال الشيخ السعدي رحمه الله :
" ( مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ) لأنه شهد لها ، ووافقها ،
وطابقت أخباره أخبارها ، وشرائعه الكبار شرائعها ، وأخبرت به ، فصار وجوده مصداقا
لخبرها ، ( وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) أي : مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة
، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية . فهو الكتاب الذي تَتَّبع كل حق
جاءت به الكتب ، فأمر به ، وحث عليه ، وأكثر من الطرق الموصلة إليه " انتهى من "
تفسير السعدي " (ص/234) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" فَلَيْسَ فِي أَمْرِ اللَّهِ لِأَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنْ
يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، أَمْرٌ بِمَا نَسَخَ ؛ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ
فِي أَمْرِ أَهْلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ : أَمْرٌ
بِمَا نَسَخَ ، بَلْ إِذَا كَانَ نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ ، فَالَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ
هُوَ الْحُكْمُ بِالنَّاسِخِ دُونَ الْمَنْسُوخِ ، فَمَنْ حَكَمَ بِالْمَنْسُوخِ ،
فَقَدْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : ( قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ
لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ ) المائدة : 68 ، فَإِنَّ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ
لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ
الَّذِي بُعِثَ إِلَيْهِمْ : إنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ حَتَّى يُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ .
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ عِنْدَهُمْ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ
اللَّهِ ، وَأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِإِقَامَتِهِ ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا
قَرَّرَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْسَخْهُ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ ، وَلَمْ
يَنْسَخْهُ النَّبِيُّ الثَّانِي ، بَلْ أَقَرَّهُ ؛ كَانَ اللَّهُ آمِرًا بِهِ
عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ بَعْدَ نَبِيٍّ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَعْثَةِ الثَّانِي مَا
يُسْقِطُ وُجُوبَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ الْأَوَّلُ وَقَرَّرَهُ
النَّبِيُّ الثَّانِي.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ يَنْسَخُ بِالْكِتَابِ الثَّانِي جَمِيعَ
مَا شَرَعَهُ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا الْمَنْسُوخُ قَلِيلٌ
بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ وَالشَّرَائِعُ .
وَأَيْضًا : فَفِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَا دَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا حَكَمَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا ، حَكَمُوا بِمَا أَوْجَبَ
عَلَيْهِمُ اتِّبَاعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .... " انتهى من
" الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح " (2/440) .
ومن ذلك الحق الذي جاء في الكتب السابقة البشارة بمبعثه عليه الصلاة والسلام ،
وصدق نبوته ، كما قال تعالى : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ ) الأعراف : 157 .
وقال تعالى : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ
أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ ) البقرة : 146 ، وقوله : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ
أَحْمَدُ ) الصف : 6 .
وعليه ، فالمراد بالآية : اتباع ما في التوراة والإنجيل من الحق المنزل من عند
الله ، ومنه الإيمان بمبعثه عليه الصلاة والسلام .
جاء في " تفسير ابن كثير " (3/155) :
" يقول تعالى : قل يا محمد : ( يا أهل الكتاب لستم على شيء ) أي : من الدين ، ( حتى
تقيموا التوراة والإنجيل ) أي : حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من
الله على الأنبياء ، وتعملوا بما فيها .
ومما فيها : الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بمبعثه ، والاقتداء
بشريعته ؛ ولهذا قال ليث ابن أبي سليم ، عن مجاهد ، في قوله : ( وما أنزل إليكم من
ربكم ) يعني : القرآن العظيم " انتهى .
وقال العلامة ابن عاشور رحمه الله :
" والمقصود بأهل الكتاب : اليهود والنصارى جميعا ؛ فأما اليهود فلأنهم مأمورون
بإقامة الأحكام التي لم تنسخ من التوراة، وبالإيمان بالإنجيل إلى زمن البعثة
المحمدية، وبإقامة أحكام القرآن المهيمن على الكتاب كله . وأما النصارى فلأنهم
أعرضوا عن بشارات الإنجيل بمجيء الرسول من بعد عيسى- عليهما السلام-.
ومعنى ( لستم على شيء ) : نفي أن يكونوا متصفين بشيء من التدين والتقوى ؛ لأن خوض
الرسول لا يكون إلا في أمر الدين والهدى والتقوى، فوقع هنا حذف صفة شيء ، يدل عليها
المقام ، على نحو ما في قوله تعالى: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ
وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) [الكهف: 79] ، أي كل سفينة
صالحة، أو غير معيبة.
والشيء : اسم لكل موجود، فهو اسم متوغل في التنكير ، صادق بالقليل والكثير، ويبينه
السياق أو القرائن. فالمراد هنا : شيء من أمور الكتاب، ولما وقع في سياق النفي في
هذه الآية ، استفيد نفي أن يكون لهم أقل حظ من الدين والتقوى ، ما داموا لم يبلغوا
الغاية التي ذكرت، وهي أن يقيموا التوراة والإنجيل والقرآن. والمقصود نفي أن يكون
لهم حظ معتد به عند الله، ومثل هذا النفي على تقدير الاعتداد شائع في الكلام ...
والمقصود من الآية : إنما هو إقامة التوراة والإنجيل عند مجيء القرآن ، بالاعتراف
بما في التوراة والإنجيل من التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى يؤمنوا به وبما
أنزل عليه.
وقد أومأت هذه الآية إلى توغل اليهود في مجانبة الهدى ، لأنهم قد عطلوا إقامة
التوراة منذ عصور قبل عيسى، وعطلوا إقامة الإنجيل إذ أنكروه، وأنكروا من جاء به، ثم
أنكروا نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يقيموا ما أنزل إليهم من ربهم ... "
انتهى ، من "التحرير والنوير" (6/265-266).
وقال العلامة القاسمي رحمه الله :
" قال بعض المحققين: معنى قوله تعالى: (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ)
أي: تعملوا طبق الواجب بأحكامهما، وتحيوا شرائعهما، وتطيعوا أوامرهما، وتنتهوا
بنواهيهما.
فإن الإقامة هي الإتيان بالعمل على أحسن أوجهه، كإقامة الصلاة مثلا. أي فعلها على
الوجه اللائق بها.
ولا يدخل في ذلك القصص التي فيهما، ولا العقائد ونحوها، فإنها ليست عملية.
والمراد : أن يعملوا بما بقي عندهم من أحكام التوراة والإنجيل على علاته، وعلى ما
به من نقص وتحريف وزيادة. فإن شرائع هذه الكتب وأوامرها ونواهيها هي أقل أقسامها
تحريفا، وأكثر التحريف في القصص والأخبار والعقائد وما ماثلها، وهي لا تدخل في
الأمر بالإقامة.
ولا شك أن أحكام التوراة والإنجيل وما فيهما من شرائع ومواعظ ونصائح ونحوها، لا
تزال فيهما أشياء كثيرة لا عيب فيها، ونافعة للبشر وفيها هداية عظمى للناس، فهي مما
يدخل تحت قوله تعالى: (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً
لِلنَّاسِ) [آل عمران: 3- 4] ، فإذا أقام أهل الكتاب أحكامهما على علاتها، كانوا لا
شك على شيء يعتد به ويصح أن يسمى دينا.
وإذا لم يقيموهما، وجروا على خلافهما، كانوا مجردين من كل شيء يستحق أن يسمى دينا.
وكانوا مشاغبين معاندين، وبدينهم غير مؤمنين إيمانا كاملا.
وهذا معنى صحيح، وهو المتبادر من الآية.
فأي شيء في هذا المعنى يدل على عدم تحريف التوراة والإنجيل وعلى وجودهما كاملين،
كما يدعي ذلك المكابرون من أهلهما، وخصوصا بعد قوله تعالى: (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ؟) [المائدة: 13] .
ثم قال: ولك أن تقول: معنى قوله تعالى: ( لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ) : الحقيقيّين ؛ وذلك يستلزم البحث والتنقيب ، والجد
والاجتهاد ، في نقد ما عندهم منهما نقدا عقليا تاريخيا صحيحا، حتى يستخلصوا حقهما
من باطلهما بقدر الإمكان .
ونتيجة ذلك العناء كلّه : أن يكونوا على شيء من الدين الحقّ، وهذا أمر لا شبهة فيه.
ولو اتبعوا القرآن : لأراحوا ، واستراحوا. ولكنهم- كما أخبر تعالى عنهم- لا يزيدهم
القرآن إلّا طغيانا وكفرا ، حسدا وعنادا فلا يؤمنون به. ولا يهتم جمهورهم بإصلاح
دينهم من المفاسد وتنقيته من الشوائب. فلم يدركوا خير هذا ولا ذاك.
فكأن الآية تريهم أنهم إذا لم يتبعوا القرآن : يجب عليهم القيام بعبء ثقيل جدّا من
البحث والتمحيص، وبعد ذلك يكونون على شيء من الحق ، لا على الحق كله ، ولو أقاموا
التوراة والإنجيل الحقيقيين غاية الإقامة، فما بالك إذا كان ذلك مستحيلا لعدم
وجودهما على حقيقتهما؟
فهم ليسوا على شيء مطلقا. ولا يمكن أن يكونوا عليه. فإن كتبهم قد صارت خلقة بالية.
لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه، حينما رأى ورقة من
التوراة بيده: ألم آتكم بها بيضاء نقية؟ والله لو كان موسى حيّا ما وسعه إلّا
اتباعي.
(فإن قيل) : وكيف يحثهم الله على العمل بأي شيء من دينهم، ومنه ما جاء القرآن ناسخا
له؟ (قلت) : لا شك عند كل عاقل: أنه خير لأهل الكتاب أن يعملوا بشرائع دينهم
الأصلية، فإنهم حينئذ يتجنبون الكذب والتحريف والعناد، والأذى والإفساد في الأرض،
وإهلاك الحرث والنسل والزنى، وغير ذلك مما يعمله الناس.
فمراد القرآن على التفسير الأول للآية : حثهم- إن أصروا على عدم الإيمان به- على
العمل بدينهم على الأقل ، ليستريح النبيّ وأتباعه من أكثر شرورهم ورذائلهم. ولكن
بعد العمل بدينهم لا يكونون على الدين الحق الكامل ، بل الذي يفهم من الآية : أنهم
يكونون على شيء من الدين، وهو- ولا شك- خير من لا شيء.
ولا يفهم أنهم يكونون على الحق كله ، وعلى الدين الكامل الذي لا غاية أعظم منه، فإن
ذلك لا يكون إلّا بالإسلام : ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) [آل
عمران: 83] . انتهى.
ولا يخفى أنهم إذا أقاموا التوراة والإنجيل، آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. لما
تتقاضى إقامتُهما الإيمانَ به ؛ إذ كثر ما جاء فيهما من البشارات به والتنويه باسمه
ودينه.
فإقامتهما على وجوههما : تستدعي الإسلام البتة، بل هي هو، والله الموفق ... انتهى،
من "محاسن التأويل" (4/203-205).
وقال العلامة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله :
" (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) :
أَيْ : (قُلْ) لِأَهْلِ الْكِتَابِ، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فِيمَا
تُبَلِّغُهُمْ عَنِ اللهِ تَعَالَى (لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ) يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ
أَمْرِ الدِّينِ، وَلَا يَنْفَعُكُمُ الِانْتِسَابُ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى
وَالنَّبِيِّينَ (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) فِيمَا دَعيَا
إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَفِيمَا بَشَّرَا
بِهِ مِنْ بَعْثَةِ النَّبِيِّ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، الَّذِي
عَبَّرَ عَنْهُ الْمَسِيحُ بِرُوحِ الْحَقِّ، وَبِالْبَارَقْلِيطِ (وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) عَلَى لِسَانِهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ،
فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَكْمَلَ بِهِ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ،
عَلَى حَسَبِ سُنَّتِهِ فِي النُّشُوءِ وَالِارْتِقَاءِ بِالتَّدْرِيجِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ: مَا أُنْزِلَ
عَلَى سَائِرِ أَنْبِيَائِهِمْ، كَمَا قِيلَ مِثْلُهُ فِي آيَةِ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ
أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ)
... ؛ إِلَّا أَنَّ ذَاكَ حِكَايَةٌ مَاضِيَةٌ، وَهَذَا بَيَانٌ لِلْحَالِ
الْحَاضِرَةِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فِي الزَّمَنَيْنِ قَائِمَةٌ ; فَهُمْ لَمْ
يَكُونُوا مُقِيمِينَ لِتِلْكَ الْكُتُبِ قَبْلَ هَذَا الْخِطَابِ، وَلَا فِي
وَقْتِهِ، وَلَا كَانَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ أَنْ يُقِيمُوهَا فِي عَهْدِهِ، كَمَا
أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُقِيمُوهَا الْآنَ .
فَهَذَا تَعْجِيزٌ لَهُمْ ، وَتَفْنِيدٌ لِدَعْوَاهُمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ
اتِّبَاعِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، بِاتِّبَاعِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمُ السَّابِقِينَ،
وَلَا يَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ بِسَلَامَةِ تِلْكَ الْكُتُبِ مِنَ التَّحْرِيفِ.
وَمِثْلُهُ : أَنْ تَقُولَ الْآنَ لِدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنَ
الْأَمْرِيكَانِ وَالْأَلْمَانِ وَالْإِنْكِلِيزِ: يَا أَيُّهَا الدَّاعُونَ لَنَا
إِلَى اتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، نَحْنُ لَا نَعْتَدُّ بِكُمْ، وَلَا
نَرَى أَنَّكُمْ عَلَى إِيمَانٍ وَثِقَةٍ بِدِينِكُمْ، وَصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ فِي
دَعْوَتِكُمْ، حَتَّى تُقِيمُوا أَنْتُمْ وَأَهْلُ مِلَّتِكُمُ التَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ اللَّذَيْنِ فِي أَيْدِيكُمْ، فَتُحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ،
وَتُبَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ، وَتُعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ، وَتَخْضَعُوا
لِكُلِّ سُلْطَةٍ ; لِأَنَّهَا مِنَ اللهِ، وَإِذَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ أَحَدٌ
فَلَا تَعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، بَلْ أَدِيرُوا لَهُ
الْخَدَّ الْأَيْسَرَ إِذَا ضَرَبَكُمْ عَلَى الْخَدِّ الْأَيْمَنِ، وَاتْرُكُوا
التَّنَافُسَ فِي إِعْدَادِ آلَاتِ الْفَتْكِ الْجُهَنَّمِيَّةِ ; لِيَكُونَ
لِلنَّاسِ السَّلَامُ فِي الْأَرْضِ، وَاخْرُجُوا مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ
الْكَثِيرَةِ وَالثَّرْوَةِ الْوَاسِعَةِ ; لِأَنَّ الْغَنِيَّ لَا يَدْخُلُ
مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، وَلَا
تَهْتَمُّوا بِرِزْقِ الْغَدِ. . . إِلَخْ.
وَنَحْنُ نَرَاكُمْ عَلَى نَقِيضِ كُلِّ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ ;
فَأَنْتُمْ لَا تَخْضَعُونَ لِكُلِّ حَاكِمٍ، بَلْ مَيَّزْتُمْ أَنْفُسَكُمْ،
وَاسْتَعْلَيْتُمْ عَلَى الشَّرَائِعِ وَالْحُكَّامِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَإِذَا
اعْتُدِيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ فِي بُقْعَةٍ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ تُجَرِّدُونَ
سُيُوفَ دَوْلَتِكُمْ، وَتُصَوِّبُونَ مَدَافِعَهَا عَلَى بِلَادِ الْمُعْتَدِي
وَدَوْلَتِهِ، لَا عَلَيْهِ وَحْدَهُ ; حَتَّى تَنْتَقِمُوا لِأَنْفُسِكُمْ
بِأَضْعَافِ مَا اعْتَدَى بِهِ عَلَيْكُمْ، وَلَا هَمَّ لِأُمَمِكُمْ وَدُوَلِكُمْ
إِلَّا امْتِلَاكُ ثَرْوَةِ الْعَالَمِ وَزَيَّنَتِهِ وَنَعِيمِهِ، وَتَسْخِيرِ
غَيْرِكُمْ مِنَ الْأُمَمِ لِخِدْمَتِكُمْ بِالْقُوَّةِ الْقَاهِرَةِ،
وَالِاسْتِعْدَادِ لِسَحْقِ مَنْ يُنَافِسُكُمْ فِي مَجْدِ هَذَا الْعَالَمِ
الْفَانِي ; لِعَدَمِ اهْتِمَامِكُمْ بِمَجْدِ الْمَلَكُوتِ الْبَاقِي.
فَنَحْنُ لَا نُصَدِّقُ بِأَنَّكُمْ تَدِينُونَ اللهَ بِهَذِهِ الْكُتُبِ الَّتِي
تَدْعُونَنَا إِلَيْهَا، حَتَّى تُقِيمُوهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَهَلْ يَعُدُّ
دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ مِثْلَ هَذَا الْخِطَابِ لَهُمُ، اعْتِرَافًا مِنَّا
بِسَلَامَةِ كُتُبِهِمْ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؟ أَمْ
يَفْهَمُونَ أَنَّهُ حُجَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ لِأَجْلِ
الْإِلْزَامِ؟
نَعَمْ، يَفْهَمُونَ هَذَا، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ لِعَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ:
إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَهَادَةٌ لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِالسَّلَامَةِ مِنَ
التَّحْرِيفِ!" انتهى من "تفسير المنار" (6/392-393) .
وللفائدة ينظر جواب السؤال رقم : (186196)
.
والله أعلم .
تعليق