الحمد لله.
تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته جاء في قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) الأحزاب/28، 29
وروى البخاري (4786) ومسلم (1475) أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي، فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ قَالَتْ: وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [الأحزاب: 28] إِلَى أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] " قَالَتْ: فَقُلْتُ: فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، قَالَتْ: ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُ.
وسبب التخيير: هو سؤالهن التوسع في النفقة .
والذي عليه جمهور المفسرين أن زوجاته اللائي خيرن في هذه الآية : تسع.
قال ابن كثير رحمه الله: " هذا أمر من الله لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه ، بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن، فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن رضي الله عنهن وأرضاهن الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة...
قال عكرمة: وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وكانت تحته صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي النضرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، رضي الله عنهن وأرضاهن" انتهى من تفسير ابن كثير (6/ 401).
وينظر: تفسير ابن عطية (4/ 381)، محاسن التأويل للقاسمي (8/ 65)، التفسير المنير للزحيلي (21/ 290).
وخالف في ذلك أبو بكر بن العربي رحمه الله فقال: إن المخيَّرات أربع فقط.
قال رحمه الله: " كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أزواج كثيرة بيناها في شرح الصحيحين، والحاضر الآن أنه كان له سبع عشرة زوجة، عقد على خمس، وبنى باثنتي عشرة، ومات عن تسع، وذلك مذكور في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
المخير منهن أربع:
الأولى: سودة بنت زمعة، تجتمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في لؤي.
الثانية: عائشة بنت أبي بكر، تجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأب الثامن.
الثالث: حفصة بنت عمر بن الخطاب، تجتمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأب التاسع.
الرابعة: أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، تجتمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأب السابع.
وذكر جماعة [من المفسرين] أن المخيرات من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع، وذكر النقاش أن أم حبيبة وزينب ممن سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - النفقة، ونزل لأجلهن آية التخيير.
وهذا كله خطأ عظيم؛ فإن في الصحيح كما قدمنا أن عمر قال في الحديث المتقدم: فدخلت على عائشة قبل أن ينزل الحجاب؛ وإنما نزل الحجاب في وليمة زينب، وكذلك إنما زوج أم حبيبة من النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاشي باليمن، وهو أصدق عنه، فأرسل بها إليه من اليمن، وذلك سنة ست.
وأما الكلابية المذكورة فلم يبن بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويقال: إن أباها زوجها منه، وقال له: إنها لم تمرض قط، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما لهذه قدر عند الله، فطلقها ولم يبن بها، وقول ابن شهاب: إنها كانت بدوية، فاختارت نفسها لم يصح. وقول ربيعة: إنها كانت البتة : لم يثبت ، وإنما بناه من بناه على أن مذهب ربيعة في التخيير بتات، ويأتي بيانه إن شاء الله عز وجل" انتهى من أحكام القرآن (3/ 556).
والذي في صحيح مسلم (195) قول عمر رضي الله عنه: (وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرْنَ بِالْحِجَابِ).
وقد بين الحافظ ابن حجر رحمه الله أن هذه الجملة غلط من الراوي، وأن الحجاب كانت سنة أربع أو خمس في زواج زينب بنت جحش، وأما التخيير فكان سنة تسع.
قال رحمه الله: " قوله: "فصليت صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية سماك: "دخلت المسجد فإذا الناس ينكثون الحصا ، ويقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب" .
كذا في هذه الرواية ، وهو غلط بين؛ فإن نزول الحجاب كان في أول زواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ، كما تقدم بيانه واضحا في تفسير سورة الأحزاب، وهذه القصة كانت سبب نزول آية التخيير، وكانت زينب بنت جحش فيمن خُير، وقد تقدم ذكر عمر لها في قوله: "ولا حسن زينب بنت جحش" . وسيأتي بعد ثمانية أبواب من طريق أبي الضحى عن ابن عباس قال: "أصبحنا يوما ونساء النبي صلى الله عليه وسلم يبكين فخرجت إلى المسجد ، فجاء عمر ، فصعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غرفة له" فذكر هذه القصة مختصرا.
فحضور ابن عباس ، ومشاهدته لذلك : يقتضي تأخر هذه القصة عن الحجاب؛ فإن بين الحجاب وانتقال ابن عباس إلى المدينة مع أبويه : نحو أربع سنين؛ لأنهم قدموا بعد فتح مكة، فآية التخيير على هذا نزلت سنة تسع؛ لأن الفتح كان سنة ثمان، والحجاب كان سنة أربع أو خمس...
وأحسن محامله عندي أن يكون الراوي لما رأى قول عمر : إنه دخل على عائشة ، ظن أن ذلك كان قبل الحجاب، فجزم به .
لكن جوابه : أنه لا يلزم من الدخول ، رفع الحجاب ؛ فقد يدخل من الباب ، وتخاطبه من وراء الحجاب" انتهى من فتح الباري (9/ 285).
وذكر في الفتح (8/ 521) أيضا أن التخيير كان سنة تسع.
وذكر فيه (9/ 283) أن قول عمر: " إنه ليس لك مثل حظوة عائشة ، ولا حسن زينب ؛ يعني : بنت جحش" رواه ابن سعد.
وهذه الرواية تدل على أن زينب كانت زوجة لنبينا صلى الله عليه وسلم عند التخيير.
وقد ذكر جماعة من أهل السير أن قصة التخيير في السنة التاسعة. منهم ابن حبان في "السيرة النبوية وأخبار الخلفاء" (1/ 360)، وبرهان الدين الحلبي في "السيرة الحلبية" 3/ 491)، الدكتور علي الصلابي في :السيرة النبوية" ص856
ولا إشكال في كون زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش ذُكر في سورة الأحزاب ، بعد آية التخيير، ولا يلزم من الترتيب في التلاوة ، على ما ذكر ، الترتيب الزمني في الوقوع، فقد يقع الأمر متقدما ويذكر في القرآن متأخرا عما وقع قبله .
وزواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب كان في السنة الخامسة. وأما التخيير فكان في التاسعة على ما تقدم.
والحاصل :
أن التخيير كان لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم التسع، وكان متأخرا، بعد فتح مكة، وعلى هذا جمهور المفسرين.
والله أعلم.
تعليق