الحمد لله.
المقرر لدى جماهير العلماء أن التوبة الصادقة من بعض الذنوب دون بعض تقبل عند الله تعالى، ولا يشترط للتوبة من ذنب معين كشهادة الزور مثلا أن يتوب هذا الشاهد من كل إثم ومعصية أخرى وقع فيها، فرحمة الله واسعة، يتقبل التوبة عن عباده، ويجازي بالحسنة الحسنة وإن كانت مثقال ذرة، ولا يضيع أجر من أحسن عملا لأجل سيئة واحدة.
قال الإمام النووي رحمه الله:
"تصح التوبة من ذنب ، وإن كان مصرا على ذنب آخر، وإذا تاب توبة صحيحة بشروطها ، ثم عاود ذلك الذنب ، كتب عليه ذلك الذنب الثاني، ولم تبطل توبته . هذا مذهب أهل السنة .." انتهى من "شرح النووي على مسلم" (17/ 59) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" وسر المسألة، أن التوبة هل تتبعض، كالمعصية، فيكون تائبا من وجه دون وجه، كالإيمان والإسلام؟
والراجح : تبعضها، فإنها كما تتفاضل في كيفيتها كذلك تفاضل في كميتها، ولو أتى العبد بفرض وترك فرضا آخر لاستحق العقوبة على ما تركه دون ما فعله، فهكذا إذا تاب من ذنب وأصر على آخر، لأن التوبة فرض من الذنبين، فقد أدى أحد الفرضين وترك الآخر، فلا يكون ما ترك موجبا لبطلان ما فعل، كمن ترك الحج وأتى بالصلاة والصيام والزكاة..." .
ثم قال بعد كلام له ، ونقاش لبعض الخلاف حول المسألة :
" والذي عندي في هذه المسألة أن التوبة لا تصح من ذنب، مع الإصرار على آخر من نوعه .
وأما التوبة من ذنب، مع مباشرة آخر لا تعلق له به، ولا هو من نوعه : فتصح، كما إذا تاب من الربا، ولم يتب من شرب الخمر مثلا، فإن توبته من الربا صحيحة .
وأما إذا تاب من ربا الفضل، ولم يتب من ربا النسيئة وأصر عليه، أو بالعكس، أو تاب من تناول الحشيشة وأصر على شرب الخمر، أو بالعكس : فهذا لا تصح توبته .
وهو كمن يتوب عن الزنا بامرأة، وهو مصر على الزنا بغيرها، غير تائب منها، أو تاب من شرب عصير العنب المسكر، وهو مصر على شرب غيره من الأشربة المسكرة : فهذا في الحقيقة لم يتب من الذنب، وإنما عدل عن نوع منه إلى نوع آخر، بخلاف من عدل عن معصية إلى معصية أخرى غيرها في الجنس .. " انتهى ، من "مدارج السالكين" (1/284-285) .
وينظر : "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/56-58) ، "مختصر الفتاوى المصرية" (137) ، "مجموع الفتاوى" (10/23) .
ولهذا ؛ فعمل الصالحات ، والتوبة من السيئات : يتقبلها الله عز وجل ، ولو كان صاحبها متلبسا بهجر أخيه، فذلك العمل الصالح شيء، ومعصية الهجران شيء آخر، لا علاقة بينهما تلازمية، بحيث لا يقبل العمل الصالح مطلقا حتى تزول الشحناء بين الأخوين ، ولا دليل ـ البتة ـ على أن هذه الشحناء ، تحبط عمل العبد الصالح ؛ وليس هذا هو المقصود في الحديث الشريف: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا) رواه مسلم (رقم/2565)
إذ لو فهمناه على هذا الوجه لسلكنا طريقا خاطئا يؤدي إلى غلق باب التوبة، وتيئيس العباد من الرحمة، واقتحام حرمة اللعن والطرد من الرحمة تحت ذريعة معصية الشحناء، كما اقتحمت هذه الحرمة من قبل باسم "التكفير" و"التضليل".
وإنما الذي يظهر في معنى الحديث الشريف : أن الذنوب التي لا تغفر بسبب استمرار "الشحناء" هي "نفس الشحناء" التي بين المتهاجرين فقط ، فإن الله لا يتفضل على المتشاحنين بمغفرة هذا الذنب ، إلا أن يتوبا عنه ، ويرجعا إلى ما كانا عليه .
ففي هذه المشاحنة ، والهجران ذنبان: ذنب يتعلق بحق الله سبحانه، وآخر يتعلق بحق العبد، فإذا اصطلحا وتسامحا غفر الله لهما ما يتعلق بحقه أيضا سبحانه، أما إذا لم يصطلحا ولم يتسامحا، لم يغفر لهما، لا من جهة حق العبد ولا من جهة حق الله عز وجل.
أما الذنوب الأخرى التي بين العبد وربه، فلا شأن لها بالشحناء، ولم يقصدها هذا الحديث الشريف.
يقول الإمام ابن عبد البر رحمه الله – "الاستذكار" (26/159) - :
" وَفِيهِ تَعْظِيمُ ذَنْبِ الْمُهَاجَرَةِ وَالْعَدَاوَةِ وَالشَّحْنَاءِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَأْمَنُهُمُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، الْمُصَدِّقُونَ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ، الْمُجْتَنِبُونَ لِكَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ.
وَالْعَبْدُ الْمُسْلِمُ مَنْ وَصَفْنَا حَالَهُ، وَمَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ
فَهَؤُلَاءِ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَهْجُرَهُمْ، وَلَا أَنْ يُبْغِضَهُمْ، بَلْ مَحَبَّتُهُمْ دِينٌ، وَمُوَالَاتُهُمْ زِيَادَةٌ فِي الْإِيمَانِ، وَالْيَقِينِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذُّنُوبَ بَيْنَ الْعِبَادِ ، إِذَا تَسَاقَطُوهَا ، وَغَفَرَهَا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، أَوْ خَرَجَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَمَّا لَزِمَهُ مِنْهَا : سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: ( حَتَّى يَصْطَلِحَا ) ؛ فَإِذَا اصْطَلَحَا : غُفِرَ لَهُمَا ". انتهى .
وينظر أيضا : "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (21/ 263)
وقال القاضي ابن العربي رحمه الله:
"قال علماؤنا: في هذا الحديث دليلٌ على أنّ الذُّنوبَ بين العباد إذا تَسَاقَطُوهَا وغَفَرَهَا بعضُهُم لبعضٍ، أو خرجَ بعضُهُم لبعضٍ عمّا لَزِمَهُ منها، سَقَطَتِ المطالبةُ من الله بها، بدليل قوله في هذا الحديث: (حَتَّى يَصطَلِحَا) فَإِذَا اصطلَحَا غُفِرَ لَهُمَا" انتهى من "المسالك في شرح موطأ مالك" (7/279)
والخلاصة : أن المتشاحن أو المتخاصم مع أخيه بغير وجه حق : لا يغفر له ذنب التخاصم حتى يصطلح معه؛ لأنه من حقوق العباد التي لا تغفر إلا بالتسامح بينهم.
وأما ذنوبه الأخرى : فالتوبة الصادقة تغفرها ، أو برحمة أرحم الراحمين ؛ ولو كان متخاصما مع أخيه، ولكن يخشى أن يحرم من المغفرة التامة ، أو ألا يوفق إلى التوبة النصوح .
فليخش المشاحن على نفسه ، وليبادر بإصلاح ذات البين .
وللمزيد ينظر: (98636)
والله أعلم.
تعليق