الحمد لله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يُنَاظِرُ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الْمُتْعَةِ فَقَالَ لَهُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ! أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُونَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (20/ 215) .
وهكذا ذكره بنحوه في غير موضع من "الفتاوى" ، فانظر : (20/ 251) ، (26/ 50) ، (26/ 281)
كما ذكره ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (2/182) ، و"إعلام الموقعين" (2/ 168).
وتابعهما على ذكره بهذا اللفظ غير واحد من أهل العلم المعاصرين .
ولم نجده بهذا اللفظ في كتب السنة ، ولكنه صحيح من حيث المعنى :
فروى الإمام أحمد (3121) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " تَمَتَّعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ الْمُتْعَةِ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا يَقُولُ عُرَيَّةُ؟ قَالَ: يَقُولُ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ الْمُتْعَةِ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُرَاهُمْ سَيَهْلِكُونَ أَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟ "
ورواه الطبراني في "الأوسط" (21) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ : " أَنَّهُ أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، طَالَمَا أَضْلَلْتَ النَّاسَ ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا عُرَيَّةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ يَخْرُجُ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ، فَإِذَا طَافَ، زَعَمْتَ أَنَّهُ قَدْ حَلَّ ، فَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَنْهَيَانِ عَنْ ذَلِكَ ؟
فَقَالَ: أَهُمَا، وَيْحَكَ، آثَرُ عِنْدَكَ أَمْ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ وَفِي أُمَّتِهِ؟
فَقَالَ عُرْوَةُ: هُمَا كَانَا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي وَمِنْكَ ".
قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 234):
" رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ " انتهى .
ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 189) عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ : " أَنَّ عُرْوَةَ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَضْلَلْتَ النَّاسَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا عُرَيَّةُ؟ قَالَ: تُفْتِي النَّاسَ أَنَّهُمْ إِذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلُّوا , وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَجِيئَانِ مُلَبِّيَيْنِ بِالْحَجِّ فَلَا يَزَالَانِ مُحْرِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ ؟
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِهَذَا ضَلَلْتُمْ؟ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُونِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؟
فَقَالَ عُرْوَةُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَانَا أَعْلَمَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكَ ".
وروى ابن حزم في "حجة الوداع" (ص: 353) وابن عبد البر في "الجامع" (2/1209) عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ: " قَالَ عُرْوَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ؟ تُرَخِّصُ فِي الْمُتْعَةِ ؟
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَلْ أُمَّكَ يَا عُرْوَةُ .
فَقَالَ عُرْوَةُ: أَمَّا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ فَلَمْ يَفْعَلَا .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكُمْ مُنْتَهِينَ حَتَّى يُعَذِّبَكُمُ اللَّهُ، أُحَدِّثُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُونَنَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فَقَالَ عُرْوَةُ هُمَا أَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَعُ لَهَا مِنْكَ " .
فهذا خبر ثابت ، إلا أنا لم نجده باللفظ المذكور في السؤال ، وهو صحيح المعنى .
ومعنى هذا الأثر :
أنه لا يجوز أن تترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد ورأيه ، فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم على قول غيره ، وفعله مقدم على فعل غيره ، ولا تعارض سنته بقول أحد أو فعله ، كائنا من كان .
قال الخطيب البغدادي رحمه الله – معلقا على قول عروة: هُمَا وَاللَّهِ كَانَا أَعْلَمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتْبَعَ لَهَا مِنْكَ - :
" قُلْتُ: قَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَلَى مَا وَصَفَهُمَا بِهِ عُرْوَةُ ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ أَحَدٌ فِي تَرْكِ مَا ثَبَتَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " انتهى من "الفقيه والمتفقه" (1/ 378).
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله:
" معنى هذا: أن العبد يجب عليه الانقياد التام لقول الله تعالى، وقول رسوله، وتقديمهما على قول كل أحد، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة " .
انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (1/ 77) .
وقال ابن عثيمين رحمه الله :
" لا يجوز لأحد من الناس أن يعارض كلام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأي كلام، لا بكلام أبي بكر الذي هو أفضل الأمة بعد نبيها، ولا بكلام عمر الذي هو ثاني هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام عثمان الذي هو ثالث هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام علي الذي هو رابع هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام أحد غيرهم؛ لأن الله تعالى يقول: ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) " انتهى من"مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (5/ 249) .
وقال ابن عبد البر في "الجامع" (2/ 1210):
" قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: " مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ مُعَاوِيَةَ ، أُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُخْبِرُنِي بِرَأْيِهِ، لَا أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ أَنْتَ بِهَا " . وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مِثْلَ ذَلِكَ بِمَعْنَاهُ " انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" قَالَ أَحْمَد: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ قَالَ:
سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ ، فَأَمَرَ بِهَا .
فَقِيلَ لَهُ: إنَّك تُخَالِفُ أَبَاك ؟!
فَقَالَ: عُمَرُ لَمْ يَقُلْ الَّذِي تَقُولُونَ ، إنَّمَا قَالَ عُمَرُ: إفْرَادُ الْحَجِّ مِنْ الْعُمْرَةِ ، فَإِنَّهَا أَتَمُّ لِلْعُمْرَةِ ، أَوْ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَتِمُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَّا أَنْ يُهْدَى.
وَأَرَادَ أَنْ يُزَارَ الْبَيْتُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَجَعَلْتُمُوهَا أَنْتُمْ حَرَامًا ، وَعَاقَبْتُمْ النَّاسَ عَلَيْهَا ؛ وَقَدْ أَحَلَّهَا اللَّهُ ، وَعَمِلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ !!
فَإِذَا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ: أَفَكِتَابَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا أَمْ عُمَرُ؟
وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُنَاظِرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهَا ، فَقَالَ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك ؟!
فَقَالَ لَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ : يَا عرية ؛ سَلْ أُمَّك .
يَعْنِي أَنَّهَا تُخْبِرُهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْإِحْلَالِ ؛ وَكَانَتْ أَسْمَاءُ مِمَّنْ أَحَلَّتْ.
وَهَذِهِ الْمُشَاجَرَةُ إنَّمَا وَقَعَتْ؛ لِأَنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ يُوجِبُ الْمُتْعَةَ ، بَلْ كَانَ يُوجِبُ الْفَسْخَ ، وَكَانَ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ : فَقَدْ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ.
وَيَحْتَجُّ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ بِالتَّحَلُّلِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ .
وَإِيجَابُ الْمُتْعَةِ هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالظَّاهِرِيَّةِ: كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشِّيعَةِ أَيْضًا .
لَكِنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّمَتُّعُ وَالْإِفْرَادُ؛ وَالْقِرَانُ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (26/ 50) .
على أن الواجب أن ننبه هنا إلى أمر مهم في ذلك ، وهو :
أن المخاطب باتباع محض الدليل ، وعدم تقديم كلام الصحابة ، فمن دونهم من أهل العلم عليه : إنما هو العالم ، وطالب العلم المتأهل المنتهي ، القادر على الاستنباط ، والاجتهاد في المسألة ، ومعرفة أطراف القول فيها ، وموارد أدلتها .
وأما العامي ومن أشبهه : فإنما فرضه سؤال أهل العلم ، واتباع ما يفتونه به ؛ كما أمر الله عباده بذلك ، فقال : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) النحل/43
وينظر للفائدة الفتوى رقم : (604)، (192055) ، (235537) .
والله أعلم .
تعليق