الحمد لله.
أولًا:
المراد بالحكمة في قوله تعالى: يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ البقرة/269 ، المراد بها: الإصابة في القول والفعل، فإن الله يهدي إليها من يشاء من عباده ، ومن يؤتَ الإصابة في ذلك منهم ، فقد أوتي خيرا كثيرا.
يقول السعدي: " ... من آتاه الله الحكمة فقد آتاه خيرا كثيرا .
وأي خير أعظم من خير : فيه سعادة الدارين والنجاة من شقاوتهما!
وفيه التخصيص بهذا الفضل ، وكونه من ورثة الأنبياء ؟!
فكمال العبد متوقف على الحكمة، إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية .
فتكميل قوته العلمية : بمعرفة الحق ، ومعرفة المقصود به .
وتكميل قوته العملية : بالعمل بالخير ، وترك الشر .
وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل ، وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره . وبدون ذلك ، لا يمكنه ذلك .
ولما كان الله تعالى قد فطر عباده على عبادته ، ومحبة الخير ، والقصد للحق ؛ فبعث الله الرسل مذكرين لهم بما ركز في فطرهم وعقولهم ، ومفصلين لهم ما لم يعرفوه ؛ انقسم الناس قسمين :
قسم أجابوا دعوتهم ، فتذكروا ما ينفعهم ففعلوه ، وما يضرهم فتركوه، وهؤلاء هم أولو الألباب الكاملة، والعقول التامة .
وقسم لم يستجيبوا لدعوتهم، بل أجابوا ما عرض لفطرهم من الفساد ، وتركوا طاعة رب العباد، فهؤلاء ليسوا من أولي الألباب، فلهذا قال تعالى: وما يذكر إلا أولو الألباب " انتهى من "تفسير السعدي" (115).
ثانيًا:
والذي تدل عليه نصوص الصحابة والتابعين، أن الحكمة هنا عامة، تشمل الأنبياء وغيرهم، فقد ورد عن السلف في الحكمة أقوال:
1- أنها القرآن والفقه به، عن ابن عباس، في قوله: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا البقرة/ 269 " يعني المعرفة بالقرآن ، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله " .
وعن قتادة قوله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا البقرة/269
" والحكمة: الفقه في القرآن "، وعن أبي العالية: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا البقرة/269 قال: "الكتاب والفهم فيه".
بل قال مجاهد: "ليست بالنبوة، ولكنه القرآن والعلم والفقه" .
2- وقال آخرون: "معنى الحكمة الإصابة في القول والفعل" .
3- وقال آخرون: "هي العلم بالدين" .
4- وقال آخرون: الحكمة: "الفهم" .
5- وقال آخرون: الحكمة: "الخشية" .
6- وقال آخرون: هي "النبوة" .
والصحيح: أن هذه القوال متقاربة، والآية تحتمل كل هذه الأقوال، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة، وإذا كان ذلك كذلك ، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره ، فهما خاشيا لله : فقيها عالما، وكانت النبوة من أقسامه؛ لأن الأنبياء مسددون مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في بعض الأمور، والنبوة بعض معاني الحكمة.
فتأويل الكلام: يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا .
انظر: "تفسير الطبري"(5/ 12).
قال ابن كثير: " والصحيح أن الحكمة -كما قاله الجمهور -لا تختص بالنبوة ، بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع " انتهى من "تفسير ابن كثير"(1/ 701).
والله أعلم
تعليق