الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

حول صحة بعض الأدعية التي فيها ذكر ظلمة القبر ووحشته ونحو ذلك .

301977

تاريخ النشر : 01-04-2019

المشاهدات : 28995

السؤال

ما صحة الأدعية التي فيها تصوير لحال الإنسان في القبر، مثل : "آنس وحشتنا" ، " ظلمة القبر"، " تحت الجنادل والتراب وحدنا" ، " إذا أكلنا الدود "، سبب سؤالي هو : أنها تعطي تصورا عن حالنا في البرزخ، والذي أعرفه أنها حياة مختلفة عن مقاييس الدنيا، وأن الجسد والظلمة وكوننا تحت التراب كل هذه أمور يراها ويحسب لها من هو في الدنيا ، أما من في البرزخ فهو في عالم آخر، لا سيما الصالحون والمنعمون، فأرجو إفادتي بما ينبغي أن أفهمه في هذه المسألة وأعتقده .

الجواب

الحمد لله.

فإنه مما لا ريب فيه أن الله تعالى جعل الدور ثلاثا ، الدنيا ، والبرزخ ، والآخرة .

ولكل دار أحكامها التي تختلف عن غيرها .

والأحاديث الواردة في ذكر القبر ، وما فيه من النعيم ، أو ما فيه من العذاب ، لا يُقصد به هذه الحفرة المنظورة ، وإنما القصد به حياة البرزخ ، بما فيها من سؤال الملكين ، ثم النعيم أو العذاب.

قال السفاريني في "كشف اللثام" (2/609) :" ( من عذاب القبر ) ؛ وهو مدفن الإنسان ، وجمعه: قبور ، والمقبُرة - مثلثة الباء ، وكمكنسة - : موضعها.

والمراد: الاستعاذة باللَّه من عذاب البرزخ ". انتهى

ولذا فجميع ما جاء في الأحاديث الصحيحة عما يحدث في القبر ، فإنه يجري على كل ميت ، حتى ولو لم يكن له قبر ، بأن يكون مثلا أكلته السباع ، أو أحرقته النار ، لأن الأمر متعلق بحياة البرزخ لا الحفرة المنظورة .

قال ابن القيم في "الروح" (ص58) :" ومما ينبغي أن يعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ ، فكل من  مات وهو مستحق للعذاب، ناله نصيبه منه ، قُبر أو لم يُقبر ، فلو أكلته السباع ، أو أحرق حتى صار رمادا ونسف في الهواء ، أو صلب ، أو غرق في البحر : وَصل إلى روحه وبدنه من العذاب ، ما يصل إلى المقبور " انتهى .

ويجب أن يُعلم أن كل ما جاء في الأحاديث من وصف الملائكة الذين يسألون الميت ، وإقعاده للسؤال ، وما يتبع ذلك من صور النعيم ، أو من صور العذاب ، لا يمكن قياسه على أحوال الدنيا ، ولا يجوز أن يُعترض عليه بعدم مشاهدته ، أو رؤية آثاره ، لأن كيفيته لا يعلمها إلا الله ، وهي مناسبة لأحكام البرزخ ، وليست تشبه أحوال الدنيا ولا الآخرة .

 قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (8/401) :" ذكر مسلم في هذا الموضع أحاديث كثيرة في عذاب القبر ، وإسماع صوت من يعذب فيها ، وسمع الموتى قرع نعال دافنيهم ، وكلامه لأهل القليب، وقوله: " ما أنتم بأسمع منهم "، وسؤال الملكين للميت وإقعادهما إياه ، وجوابه لهما ، والفسح له في قبره ، وعرض مقعده عليه بالغداة والعشى .

وهذا كله قد تقدم فيه لنا كلام في كتاب الصلاة والجنائز ، وأن مذهب أهل السنة تصحيح هذه الأحاديث ، وإمرارها على وجهها ؛ لصحة طرقها ، وقبول السلف لها ؛ خلافًا لجميع الخوارج ، ومعظم المعتزلة ، وبعض المرجئة ؛ إذ لا استحالة فيها ، ولا رد للعقل .

ولكن المعذب الجسد بعينه ، بعد صرف الروح إليه ، أو إلى جزء منه ، خلافاً لمحمد بن جرير وعبد الله بن كرام ومن قال بقولهما ؛ من أنه لا يشترط الحياة ؛ إذ لا يصح الحس والألم واللذة إلا من حي ، وإن شاهدنا الجسد نحن على هيئته غير معذب ، فذلك لا يرد ما جاء ، كحال النائم ، وشبه الأموات من المرضى ، وأصحاب السكتات مع الجلوس ؛ بالتذاذه وآلامه بمرائيه وأحلامه ، ونحن لا نشاهد ذلك منه ، إذ واجد اللذة والألم منه : مكانُ الإدراك.

وكذلك إقعاده الوارد في الحديث ... ؛ فلا يبعد التوسع له في لحده والإقعاد له ، والمحاورة ثم تنعيمه أو تعذيبه " انتهى .

وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بإثبات ضيق القبر وسعته ، وظلمة القبر ونوره ، ووحشة الميت وأنسه فيه .

ومن هذه الأحاديث ما أخرجه مسلم في "صحيحه" (920) ، من حديث أُمِّ سَلَمَةَ ، قَالَتْ: " دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ ، فَأَغْمَضَهُ ، ثُمَّ قَالَ:   إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ  ، فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ ، فَقَالَ:  لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ   ، ثُمَّ قَالَ:  اللهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ  وفي لفظ عند مسلم : اللهُمَّ أَوْسِعْ لَهُ فِي قَبْرِهِ .

وموضع الشاهد فيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأبي سلمة ، وكان من دعائه له : أن يوسع الله له في قبره ، وأن ينور له فيه .

وكذلك من الأحاديث الصحيحة حديث البراء بن عازب ، وهو حديث صحيح مشهور ، أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (18534) ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ:" خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ ، وَلَمَّا يُلْحَدْ ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ ، كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ ، فَقَالَ:   اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثًا  ، ثُمَّ قَالَ:   إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ ...   ثم ساق الحديث بطوله .

وفيه حال المؤمن في قبره أنه قال :  فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي ، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ ، فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا ، وَطِيبِهَا ، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ ، ....  .

وذكر فيه حال الكافر ، أنه قال :   فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ ، فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا ، وَسَمُومِهَا ، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ .  

والحديث صححه ابن منده كما في "الإيمان" (1064) ، وابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (4/290) ، والشيخ الألباني في "أحكام الجنائز" (ص159) .

وكذلك جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه" (121) ، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه ، وفيه أنه قال حينما حضرته الوفاة : " فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ ، وَلَا نَارٌ ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا ، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا ، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي" .

والشاهد فيه ، قوله : حتى أستأنس بكم .

قال القاري في "مرقاة المفاتيح" (3/1227) :" حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ أَيْ: بِدُعَائِكُمْ ، وَأَذْكَارِكُمْ وَقِرَاءَتِكُمْ ، وَاسْتِغْفَارِكُمْ " انتهى .

فمما سبق يتبين أن المسلم في حياة البرزخ يحتاج إلى السعة ، والنور ، والأنس ، فإذا سأل المسلم ربه ذلك جاز بلا إشكال .

وكل هذا واقع على الروح في الأصل ، مع اتصال بالبدن بكيفية لا يعلم كنهها إلا الله .

سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية ، كما في "مجموع الفتاوى" (4/282) :" عَنْ " عَذَابِ الْقَبْرِ ". هَلْ هُوَ عَلَى النَّفْسِ وَالْبَدَنِ أَوْ عَلَى النَّفْسِ ؛ دُونَ الْبَدَنِ؟ وَالْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ حَيًّا أَمْ مَيِّتًا ؟ وَإِنْ عَادَتْ الرُّوحُ إلَى الْجَسَدِ أَمْ لَمْ تَعُدْ ، فَهَلْ يَتَشَارَكَانِ فِي الْعَذَابِ وَالنَّعِيمِ؟ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؟

فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، بَلْ الْعَذَابُ وَالنَّعِيمُ عَلَى النَّفْسِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا، بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ؛ تَنْعَمُ النَّفْسُ وَتُعَذَّبُ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْبَدَنِ ، وَتُعَذَّبُ مُتَّصِلَةً بِالْبَدَنِ وَالْبَدَنُ مُتَّصِلٌ بِهَا،  فَيَكُونُ النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ عَلَيْهِمَا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُجْتَمَعِينَ ، كَمَا يَكُونُ لِلرُّوحِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْبَدَنِ ... فَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ  سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا : أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ يَكُونُ فِي نَعِيمٍ ، أَوْ عَذَابٍ ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِرُوحِهِ وَلِبَدَنِهِ ، وَأَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ مُنَعَّمَةً أَوْ مُعَذَّبَةً،  وَأَنَّهَا تَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَحْيَانًا ، فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَهَا النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ. ثُمَّ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى أُعِيدَتْ الْأَرْوَاحُ إلَى أَجْسَادِهَا وَقَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ". انتهى

وقال ابن رجب في "فتح الباري" (5/105) في شرحه لقول النبي صلى الله عليه وسلم :( إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ ، وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ ) ، قال :" وفي الآية والحديث: دليل على أن قبض الأرواح من الأبدان لا يشترط له مفارقتها للبدن بالكلية ، بل قد تقبض ويبقى لها به منه نوع اتصال، كالنائم .

ويستدل بذلك على أن اتصال الأرواح بالأجساد بعد الموت لإدراك البدن النعيم والعذاب ، أو للسؤال عند نزول القبر : لا يسمى حياة تامة ، ولا مفارقتها للجسد بعد ذلك موتاً تاماً ، وإلا لكان الميت يحيى ويموت في البرزخ مراراً كثيرة .

وهذا يرد قول من أنكر إعادة الروح إلى الجسد عند السؤال والنعيم أو العذاب ". انتهى

وحل هذا الإشكال هو ألا تُقاس أحوال البرزخ والآخرة على الدنيا ، فلكل دار أحكامها ، وأحوال الدنيا غير أحوال البرزخ وأحوال الآخرة .

قال الشيخ ابن عثيمين في "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام" (2/508) :" قال: ( وأفسح له في قبره ) ، أفسح : بمعنى: وسِّع ، والقبر- كما نعلم- من الناحية الحسية ضيق ، لكنه قد يوسَّع للإنسان حتى يكون مدَّ بصره ، كيف يوسع وهو ضيق حسًّا؟ لأن أحوال الآخرة غير أحوال الدنيا ، إذا كان الإنسان وهو نائم أحيانًا يرى في المنام أنه في مكان واسع فسيح، بستان وما أشبه ذلك ، وأحيانًا يرى أنه في مكان ضيق في نفق ، ومع هذا فهو في غرفته التي لا تزيد ولا تنقص، وهو متغطٍّ بلحافه ، فإذا كانت هذه حال الروح في الدنيا ، فما بالك بحالها في الآخرة " انتهى.

والحاصل:
أن أحوال القبر والبرزخ: لا تقاس بشيء من أحوال الدينا، فذلك عالم مستقل عن عالم الأحياء، لا يشبهه في شيء ، ولا تجري عليه صفاته، وأحواله.

وهو من عالم الغيب، الذي لا يدخل تحت حس، ولا تجربة، ولا قياس؛ وإنما مرد الأمر فيه إلى الخبر الصادق عن الوحي المعصوم، فقط.

ونحن ، وإن كنا نعتقد اختلاف أحول البرزخ والقبر ، عن الدنيا وأحوالها؛ فإن ذلك لا يمنعنا من الكلام بتفصيل ما جاء الخبر بتفصيله، كالسؤال في القبر، وإقعاد الميت من أجله، وسماعه قرع نعال المشيعين، ونعيم الميت، أو عذابه في قبره ؛ فما أجمل ذكره في الأخبار: أجملنا القول فيه ، وما فصل ذكره، فصلناه، نقف مع السنة حيث وقفت، ونسير معها حيث سارت، لا نقول في عالم الغيب بشيء من عند أنفسنا، ولا نتقدم بين يدي الله ورسوله، ولا ننكر شيئا مما صح به الخبر، ولا نستبعد حصوله.

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب