الخميس 18 جمادى الآخرة 1446 - 19 ديسمبر 2024
العربية

لماذا تقوم الملائكة ببعض أمور الكون، مع أن الله تعالى غني عنهم؟

302845

تاريخ النشر : 02-05-2019

المشاهدات : 44037

السؤال

لماذا عيّن الله بعض الملائكة للقيام بالمهام بينما يستطيع أن يفعل ذلك بنفسه؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

من أصول الإيمان، الإيمان بالملائكة الكرام، وأن الله تعالى قد وكّل كل ملك بمهمة يقوم بها، ومن ذلك تدبير جوانب من شؤون هذا الكون، قال الله تعالى:

 فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا  النازعات /5.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:

" وقوله: ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) قال علي، ومجاهد، وعطاء، وأبو صالح، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي: هي الملائكة - زاد الحسن: تدبر الأمر من السماء إلى الأرض. يعني: بأمر ربها عز وجل. ولم يختلفوا في هذا " انتهى، من "تفسير ابن كثير" (8 / 313).

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:

" ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) الملائكة، الذين وكلهم الله أن يدبروا كثيرا من أمور العالم العلوي والسفلي، من الأمطار، والنبات، والأشجار، والرياح، والبحار، والأجنة، والحيوانات، والجنة، والنار، وغير ذلك  " انتهى، من "تفسير السعدي" (ص 908).

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" وكل حركة في السماوات والأرض من حركات الأفلاك، والنجوم، والشمس، والقمر، والرياح، والسحاب، والنبات، والحيوان، فهي ناشئة عن الملائكة الموكّلين بالسماوات والأرض، كما قال تعالى: ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا )، وقال: ( فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا )، وهي الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل عليهم السلام...

وقد دلّ الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكّلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكّل بالجبال ملائكة، ووكّل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكّل بالرحم ملائكة تُدَبّر أمر النطفة حتى يتم خلقها، ثم وكّل بالعبد ملائكة لحِفظه، وملائكةً لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته، ووكّل بالموت ملائكةً، ووكّل بالسؤال في القبر ملائكةً، ووكّل بالأفلاك ملائكة يُحرّكونها، ووكّل بالشمس والقمر ملائكة، ووكّل بالنار وإيقادها ملائكة، وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكّل بالجنة وعمارتها وغراسها وعمل الأنهار فيها ملائكة، فالملائكة أعظم جنود الله تعالى " انتهى، من "اغاثة اللهفان" (2 / 842).

ثانيا:

الملائكة وإن وكلهم الله تعالى بشيء من تدبير الملك، فإنما هو تدبير بإذن الله تعالى وأمره، لا يفعلون إلا ما يؤمرون.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" فلفظ المَلَكِ يُشعر بأنه رسول منفِّذ لأمر غيره، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله الواحد القهّار، وهم ينفِّذون أمره ( لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ )، ( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )، ( لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )، لا تتنزل إلا بأمره، ولا تفعل شيئًا إلا من بعد إذنه، فهم عِباد له مكرمون، منهم الصافّون، ومنهم المسبحون، ليس فيهم إلا مَن له مقام معلوم لا يتخطّاه، وهو على عمل قد أُمِر به، لا يُقصّر عنه، ولا يتعداه " انتهى، من "اغاثة اللهفان" (2 / 843).

ثالثا:

مما هو مقطوع به في دين الإسلام؛ أن الله تعالى لا يتصرف إلا لحكمة بالغة سواء أطلعنا عليها أو استأثر بها في علمه سبحانه وتعالى.

سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى، عن الحكمة من خلق الجن والإنس؟

فأجاب رحمه الله تعالى:

" قبل أن أتكلم عن هذا السؤال أحب أن أنبه على قاعدة عامة فيما يخلقه الله  عز وجل  وفيما يشرعه.

وهذه القاعدة مأخوذة من قوله تعالى: ( وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ). وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ). وغيرهما من الآيات الكثيرة الدالة على إثبات الحكمة لله عز وجل فيما يخلقه، وفيما يشرعه، أي في أحكامه الكونية، وأحكامه الشرعية، فإنه ما من شيء يخلقه الله عز وجل إلا وله حكمة، سواء كان ذلك في إيجاده، أو في إعدامه.

وما من شيء يشرعه الله تعالى إلا لحكمة سواء كان ذلك في إيجابه، أو تحريمه، أو إباحته.

لكن هذه الحكم التي يتضمنها حكمه الكوني والشرعي، قد تكون معلومة لنا، وقد تكون مجهولة، وقد تكون معلومة لبعض الناس دون بعض، حسب ما يؤتيهم الله سبحانه وتعالى من العلم والفهم " انتهى، من "مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (1 / 87).

رابعا:

كمال حكمته تعالى: أمر مقرر عند المسلم، والتسليم لها من أصول الإيمان.

يقول الإمام الشافعي رحمه الله: " ولكن الله تَعَبَّدَهُ وَالْخَلْقَ بِمَا شَاءَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ فلم يكن له ولا لأحد إدخال لم ولا كيف ولا شيئا من الرأي على الخبر عن رسول الله " انتهى من "الأم" (10/16).

ومعرفة ذلك: تدفع المسلم إلى أن يشغل نفسه بتزكيتها، ولا يتركها تشغله باقتراح المسائل التي لا تجر للمسلم نفعا، بل يولد الغلو فيها شكا ووسوسة.

قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى:

" اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله، على التسليم ، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع.

ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ، ونهاها عنه ، وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت.

وما عرفت من الحكمة، عرفته، وما خفي عنها، لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك...

ولهذا كان سلف هذه الأمة. التي هي أكمل الأمم عقولا ومعارف وعلوما - لا تسأل نبيها: لم أمر الله بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدّر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم...

فالله سبحانه وتعالى لا يُسأل عما يفعل، لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرّد قهره وقدرته  " انتهى. "شرح الطحاوية" (ص 261 - 262).

قال الله تعالى:   وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ   القصص/68 .

ويراجع لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم : (186418).

خامسا:

المسلم عند تمعنه في أعمال الملائكة، تظهر له جوانب من حكمة الله تعالى.

فخلق الله تعالى للملائكة وأعمالها: يثبت كمال ربوبيته وألوهيته تعالى، فالمسلم إذا طالع عظم خلق هؤلاء الملائكة، وكثرتهم ، وما وُكِّلوا به من الأعمال، ومع ذلك لا يخرج أحدهم عن أمره تعالى مثقال ذرة، بل يتسابقون إلى طاعته سبحانه وتعالى علم كمال ربوبية الله تعالى وألوهيته.

وإذا كانت كثرة الجند والعمال لأي ملك من ملوك الدنيا ، تدل على كمال ملكه وقوة تدبيره، وكمال طاعة رعاياه له، فهذا المعنى في حق الله تعالى متحقق بصورة أكمل بخلقه لهؤلاء الملائكة الكرام، حيث قال الله تعالى:   وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ* يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ  الأنبياء/26 - 29 .

كما أن في وجود الملائكة ، وما كلفوا به من أعمال : يورث لمن يطالع نصوص الوحي عنهم، كمال الخوف والخشية من الله تعالى ، وفي الوقت ذاته كمال الحب والرجاء.

فإذا طالع نصوص الوحي عن ملائكة العذاب ، وعن كتبة أعمال العباد، زادت خشية العبد.

وفي المقابل إذا طالع نصوص الوحي عن ملائكة الرحمة والحفظة زادت محبته لربه ورجاء مغفرته، وهذا كله يؤدي إلى تحقيق الإيمان الذي أُمِر به العباد.

قال الله تعالى:   إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ   السجدة /15 - 16.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:

" والإيمان بالملائكة يثمر ثمرات جليلة منها:

الأولى: العلم بعظمة الله تعالى، وقوته، وسلطانه، فإن عظمة المخلوق من عظمة الخالق.

الثانية: شكر الله تعالى على عنايته ببني آدم، حيث وكل من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم، وكتابة أعمالهم، وغير ذلك من مصالحهم... " انتهى، من "مجموع الفتاوى" (6 / 89).

وقال رحمه الله تعالى عن الحكمة من خلق الكرام الكاتبين، مع العلم بأن الله سبحانه وتعالى يعلم ولا يخفى عليه ما نُسِرُّ وما نُعلن:

" فالحكمة من ذلك : بيان أن الله سبحانه وتعالى نظم الأشياء وقدرها، وأحكمها إحكاماً متقناً، حتى إنه سبحانه وتعالى جعل على أفعال بني آدم ، وأقوالهم : كراماً كاتبين ، يكتبون ما يفعلون، مع أنه سبحانه وتعالى عالم بما يفعلون ، قبل أن يفعلوه.

ولكن كل هذا من أجل بيان كمال عناية الله عز وجل بالإنسان، وكمال حفظه تبارك وتعالى، وأن هذا الكون منظم أحسن نظام، ومحكم أحسن إحكام " انتهى، من "فتاوى نور على الدرب" (1 / 185).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب