الحمد لله.
أولًا :
ذكر العلماء أن العرب إذا ذكرت المنادى بوصف هيئته، من لِبسة أو جِلسة أو ضِجعة؛ كان المقصود في الغالب: التلطف به، والتحبب إليه .
ومن هنا وقع نداء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ( يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) المزمل/1، وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) المدثر/1 .
ومآل المعنى في ( المزمل ) و (المدثر ) واحد ، وإن كان بينهما اختلاف في أصل الاشتقاق .
وقد أشار القرآن إلى بداية نزول الوحي، على نحو ما ثبت أيضا في حديث عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: ( أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَة،َ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [العلق: 2] " فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي ، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ).
رواه البخاري (3)، مسلم (160).
وفي لفظ : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: ( فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ [المدثر: 1] إِلَى (وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ) قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلاَةُ وَهِيَ الأَوْثَانُ ) البخاري (4925)، مسلم (161).
وأصل المزمل، كما قال ابن عاشور : " والمزمل: اسم فاعل، من: تزمل، إذا تلفف بثوبه كالمقرور، أو مريد النوم، وهو مثل التدثر في مآل المعنى، وإن كان بينهما اختلاف في أصل الاشتقاق؛ فالتزمل: مشتق من معنى التلفف، والتدثر مشتق من معنى اتخاذ الدثار للتدفؤ "، انتهى من"التحرير والتنوير" (29/ 256).
ثانيًا :
وعلى ذلك، فالذي يظهر - والله أعلم - أن النداء بالمزمل والمدثر وقع من الله تعالى ملاطفة للنبي صلوات الله وسلامه عليه:
1- فناداه بلفظ ( المدثر ) ، وأصل الكلمة تدل على حمل خفيف ؛ لأجل الحالة التي كان عليها بعد نزول الوحي عليه ، وبعد فترة الوحي ، وأنه أصابه رعب من نزول الملك ( جبريل ) أول مرة ، ثم أصيب بالرعب منه بعد فترة الوحي مرة ثانية ؛ فخاطبه الله بـ ( يا أيها المتدثر) في ثيابه ، ( قم ) وانفض عنك هذه الثياب ، وادع إلى ربك ، ولا تخش شيئًا .
2- فلما استجاب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا النداء، وبدأ في الدعوة إلى الله ؛ ثقل الحمل عليه ، فخوطب بلفظ ( المزمل ) ، وأصل الكلمة تدل على حمل ثقيل ، = لأجل ما لقيه من شدة من المشركين ، وتكذيب منهم ، فخوطب ببعض أسباب الثبات ، كتلقي القرآن ، وتلاوته في صلاة الليل ، والصبر ، ونحو ذلك ..
انظر في أصل معنى الكلمتين ، " المعجم الاشتقاقي المؤصل " ، د. محمد حسن جبل، رحمه الله : (2/ 640 - 642)، (2/ 937 - 938).
ثالثًا :
اختلف العلماء أيهما نزل أولًا ( المزمل ) أم المدثر ..
1- فعلى القول بأن سورة ( المزمل ) نزلت قبل سورة ( المدثر ) ، فقد ذكر الطاهر ابن عاشور، رحمه الله، من الفروق بين ( المزمل ) و ( المدثر ) ، أنه: " إذا كانت سورة المزمل قد أنزلت قبل سورة المدثر؛ كان ذلك دالا على أن الله تعالى، بعد أن ابتدأ رسوله بالوحي بصدر سورة ( اقرأ باسم ربك ) [العلق: 1] ، ثم أنزل عليه سورة القلم لدحض مقالة المشركين فيه، التي دبرها الوليد بن المغيرة أن يقولوا: إنه مجنون؛ أنزل عليه التلطف به على تزمله بثيابه، لما اعتراه من الحزن من قول المشركين، فأمره الله بأن يدفع ذلك عنه بقيام الليل، ثم فتر الوحي، فلما رأى الملك الذي أرسل إليه بحراء، تدثر من شدة وقع تلك الرؤية، فأنزل عليه: ( يا أيها المدثر ).
فنداء النبيء صلى الله عليه وسلم بوصف (المزمل) باعتبار حالته وقت ندائه .
وليس (المزمل) معدودا من أسماء النبيء صلى الله عليه وسلم، قال السهيلي: ولم يُعرف به .
وذهب بعض الناس إلى عده من أسمائه.
وفعل ( قم ) : منزل منزلة اللازم ؛ فلا يحتاج إلى تقدير متعلق لأن القيام مراد به الصلاة، فهذا قيام مغاير للقيام المأمور به في سورة المدثر بقوله : ( قم فأنذر ) [المدثر: 2] ؛ فإن ذلك بمعنى الشروع كما يأتي هنالك " انتهى من" التحرير والتنوير " (29/ 257).
2- وعلى القول بأن سورة ( المدثر ) نزلت قبل سورة ( المزمل ) ، وأن عناد المشركين كان قد تزايد بعد نزول سورة المدثر ؛ فكان التعرض لهم في سورة ( المزمل ) أوسع.
قال ابن عاشور : " يا أيها المدثر من الرعب لرؤية ملك الوحي؛ لا تخف ، وأقبل على الإنذار.
والظاهر: أن هذه الآية أول ما نزل في الأمر بالدعوة ، لأن سورة العلق لم تتضمن أمرا بالدعوة، وصدر سورة المزمل تضمن أنه مسبوق بالدعوة ، لقوله فيه : ( إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم ) [المزمل: 15] ، وقوله : ( وذرني والمكذبين ) [المزمل: 11] .
وإنما كان تكذيبهم : بعد أن أبلغهم أنه رسول من الله إليهم .
وابتدئ بالأمر بالإنذار ، لأن الإنذار يجمع معاني التحذير من فعل شيء لا يليق ، وعواقبه ؛ فالإنذار حقيق بالتقديم ، قبل الأمر بمحامد الفعال ، لأن التخلية مقدمة على التحلية ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولأن غالب أحوال الناس يومئذ محتاجة إلى الإنذار والتحذير " انتهى من " التحرير والتنوير " (29/ 295).
والله أعلم
تعليق