الحمد لله.
أولا: الواجب على من وجب عليه الغسل ولم يجد ماء أو خاف على نفسه باستعمال الماء
إذا أجنب الإنسان لزمه الغسل، فإن كان لا يجد ماء، أو يجده ويخاف استعماله لمرضٍ، أو لشدة برد مع عدم ما يسخنه، انتقل إلى التيمم؛ لقوله تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا النساء/43
ولحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : " احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السُّلاسِل،ِ فَأَشْفَقْتُ إِنْ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ ، فَتَيَمَّمْتُ ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ . فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا عَمْرُو ؛ صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنْ الاغْتِسَالِ ، وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا " .
رواه أبو داود (334) ، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (323) وعلقه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي هذا الحديث جواز التيمم لمن يتوقع من استعمال الماء الهلاك سواء كان لأجل برد أو غيره ، وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين " انتهى من "فتح الباري" (1/454).
ثانيا: الحكم إذا تيمم الجنب ثم أحدث وقدر على الوضوء دون الغسل
إذا أحدث هذا الجنب، وقدر على الوضوء، ولم يقدر على الغسل؛ لخشية الضرر أو لعدم ما يسخن به الماء- كما يفهم من السؤال-، فهل يتوضأ، أم يتيمم ؟
الجواب: أنه يتوضأ، سواء كان حدثه قبل خروج الوقت الذي تيمم فيه، أو بعده؛ لأن التيمم رافع للحدث على الصحيح، وطهارته الكبرى باقية، لعجزه عن استعمال الماء، ولو خرج الوقت.
فإذا انتقضت طهارته الصغرى، وكان قادرا على الوضوء، لزمه، ولم يصح تيممه.
وهذا مبني على أصلين:
الأول: أن التيمم رافع للحدث، وهو مذهب الحنفية، ورواية عن أحمد، ورجحه ابن تيمية وابن القيم وغيرهما.
والتحقيق: أن التيمم رافع للحدث رفعا مؤقتا، إلى وجود الماء، أو القدرة على استعماله.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "الذي يظهر من الأدلة: تعيّن القول الثالث؛ لأن الأدلة تنتظم به، ولا يكون بينها تناقض، والجمع واجب متى أمكن...
والقول الثالث المذكور هو: أن التيمم يرفع الحدث رفعا مؤقتا لا كليا، وهذا لا مانع منه عقلا ولا شرعا، وقد دلت عليه الأدلة؛ لأن صحة الصلاة به، المجمع عليها: يلزمها أن المصلي غير محدث، ولا جنب ، لزوما شرعيا لا شك فيه.
ووجوب الاغتسال أو الوضوء بعد ذلك ، عند إمكانه ، المجمع عليه أيضا : يلزمه لزوما شرعيا لا شك فيه: أنّ الحدث مطلقا لم يرتفع بالكلية.
فيتعين الارتفاع المؤقت. هذا هو الظاهر "انتهى من "أضواء البيان" (2 / 60 - 65).
الأصل الثاني: أن طهارته الكبرى لا تنتقض بالحدث، وهو مذهب الجمهور، خلافا للمالكية.
قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى: " قلت: أرأيت مسافرا أجنب، فحضرت الصلاة، فلم يقدر على الماء ليغتسل به، إلا أن عنده من الماء قدر ما يتوضأ به، ولا يستطيع أن يغتسل به: كيف يصنع؟
قال: يتيمم بالصعيد، ولا يتوضأ بذلك الماء.
قلت: فإن تيمم بالصعيد وصلى الظهر، ثم أحدث ، ثم حضرت العصر وذلك الماء عنده ، قدر ما يوضئه؟
قال: يتوضأ به ، ولا يتيمم.
قلت: فإن تيمم ولم يتوضأ بذلك الماء؟
قال: لا يجزيه.
قلت: لم؟ قال: لأنه طاهر، وعنده من الماء قدر ما يتوضأ به، فلا يجزيه أن يتيمم؛ فلذلك جعلت عليه الوضوء " انتهى من "الأصل المعروف بالمبسوط" (1 / 107).
وقال العمراني رحمه الله: " وإن تيمم الجنب: استباح الصلاة، وقراءة القرآن، وجميع ما يستبيحه بالغسل.
فإن أحدث الحدث الأصغر: لم يجز له أن يصلي، ولا يمس المصحف، وجاز له قراءة القرآن، واللبث في المسجد، كما لو اغتسل ثم أحدث.
فإن قيل: هلا قلتم لا يجوز له قراءة القرآن، واللبث في المسجد؛ لأن الحدث أبطل التيمم، فإذا بطل التيمم، عاد حكم الجنابة؟
قلنا: التيمم هاهنا نائب عن الغسل، والحدث لا يُبطل الغسل، فلا يبطل ما ناب عنه " انتهى من "البيان" (1 / 320).
وقال ابن قدامة رحمه الله: " وإن تيمم للجنابةِ، والحدث، ثم أحدث: بطل تيممه للحدث، وبقي تيمم الجنابة بحاله " انتهى من "المغني" (1 / 347).
وأما المالكية فقالوا: إن أحدث بطل تيممه، وعاد جنبا. وينظر: "حاشية الدسوقي" (1 / 158).
والحاصل:
أن حدث الجنابة يرتفع عنه بتيممه ، ارتفاعا مؤقتا إلى أن يجد الماء ، إن لم يكن واجدا له ، أو إلى أن يقدر على استعماله، إن كان عذره بالعجز عن استعمال الماء.
ثم إن أحدث حدثا أصغر بعد تيممه : توضأ لحدثه الأصغر، ولم يعد تيممه عن الجنابة.
والله أعلم.
تعليق