الثلاثاء 4 جمادى الأولى 1446 - 5 نوفمبر 2024
العربية

قول بعض الصالحين؛ علي العبادة، وعلى الله الرزق كما وعد

السؤال

ما مدى صحة هذه المقولة، وهل فيها سوء أدب مع الله في قول: (وعليه)، والمقولة هي: "قيل لإبراهيم ابن أدهم: غَلَت الأسعار، فقال: والله ما يهمني لو كانت حبة القمح بدينار، عليَّ أن أعبده كما أمر، وعليه أن يرزقني كما وعد" ؟

الجواب

الحمد لله.

إن صحت نسبة هذه المقولة إلى إبراهيم بن أدهم؛ فالمعنى المتبادر منها لا إشكال فيه.

لأن الواجب على المسلم أن يكون تحقيق العبودية هو همه الأول والأكبر؛ وليس همّ الرزق، اتباعا لقوله تعالى:( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) الذاريات/56 - 58.

وقوله: " عليه أن يرزقني كما وعد ".

المفهوم منه إثبات أن الله هو الرزاق؛ وقد تكفل لكل أحد برزقه في هذه الدنيا، وجعل هذا على نفسه سبحانه وتعالى.

قال الله تعالى:( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) هود/6.

قال الطبري رحمه الله تعالى:

" (إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) ، يقول: إلا ومن الله رزقها الذي يصل إليها، هو به متكفل، وذلك قوتها وغذاؤها وما به عَيْشُها " انتهى من "تفسير الطبري" (12 / 324).

وقال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى:

" وتقديم ( عَلَى اللَّهِ ) قبل متعلَّقه ، وهو ( رِزْقُهَا) ، لإفادة القصر، أي على الله ، لا على غيره، ولإفادة تركيب ( عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ) معنى : أن الله تكفل برزقها ، ولم يهمله، لأن (عَلَى) تدل على اللزوم ، والمحقوقية، ومعلوم أن الله لا يلزمه أحد شيئا، فما أفاد معنى اللزوم ، فإنما هو التزامه بنفسه ، بمقتضى صفاته المقتضية ذلك له ، كما أشار إليه قوله تعالى: ( وَعْدًا عَلَيْنَا )، وقوله: ( حَقًّا عَلَيْنَا )." انتهى من "التحرير والتنوير" (12 / 5 - 6).

وكما قد تكفل سبحانه وتعالى برزق جميع الدواب فكذلك تكفل برزق العباد.

قال الله تعالى:( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) العنكبوت/60.

فالواجب على المسلم الصادق في ثقته بالله تعالى؛ أن لا يلحقه هلع بأي أزمة مالية؛ كما أرشد إلى هذا الوحي.

قال الله تعالى:( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الأنعام /151.

وقال الله تعالى:( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) الإسراء/31.

لأن الرزق مقدر ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها.

عن عَبْد اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه، قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ، قَالَ: ( إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ... ) رواه البخاري (3208)،  ومسلم (2643).

ولقول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَيُّهَا النَّاسُ ؛ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ ) رواه ابن ماجه (2144)، وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (6 / 209).

فالظاهر أن هذا القائل تأول التعبير القرآني باستعمال أداة "على" ، كما سبق في قوله تعالى:

( عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا )؛ بمعنى أن الله تكفل برزق عباده ، وأوجبه على نفسه ، تفضلا منه سبحانه.

ولا يقصد بقوله "على"، أنه يوجب على الله تعالى أن يرزقه مقابل عبادته؛ فالله تعالى لكمال عظمته ، وكمال ملكه ، وكمال إنعامه وفضله على الخلق: لا يوجب عليه أحد فعل شيء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ على قولين.

ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )، وبقوله في الحديث الصحيح: ( إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا )، والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر.

وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى، والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية، وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول.

وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء ومليكه، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئا، ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب، قال: إنه كتب على نفسه، وحرم على نفسه، لا أن العبد نفسه يستحق على الله شيئا، كما يكون للمخلوق على المخلوق؛ فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان، والعمل الصالح.

ومن توهم من القدرية والمعتزلة ونحوهم أنهم يستحقون عليه من جنس ما يستحقه الأجير على من استأجره؛ فهو جاهل في ذلك " انتهى من "اقتضاء الصراط المستقيم" (2 / 310 - 311).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب