الحمد لله.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ. لَوْلاَ ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ - أَوْ خُشِيَ - أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا " رواه البخاري (1390)، ومسلم (529).
وجه الإشكال في هذا الحديث أنه نسب إلى النصارى أنهم اتخذوا قبور (أنبيائهم) مساجد، ولم يكن للنصارى سوى رسول واحد ، ولم يعقبه نبي إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى، الْأَنْبِيَاءُ أَبْنَاءُ عَلَّاتٍ، وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى نَبِيٌّ رواه البخاري (3443)، ومسلم (2365) واللفظ له.
ومع أن عيسى عليه السلام ، لم يمت ، وليس له قبر على الحقيقة ؛ إلا أنهم يعتقدون أنه عليه السلام، قد صلب، ومات، وله قبر.
وقد أزال أهل العلم هذا الإشكال بأجوبة:
الجواب الأول: أن المراد الأنبياء وكبار أتباعهم، كما بيّنه حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ النَّجْرَانِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي جُنْدَبٌ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ رواه مسلم (532).
ولهذا لما ذكر اليهود وحدهم ذكر الأنبياء فقط.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ رواه البخاري (437) ومسلم (530).
ولما أفرد النصارى بالذكر ذكر صالحيهم فقط.
عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ، ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ، فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ العَبْدُ الصَّالِحُ، - أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ رواه البخاري (434)، ومسلم (528).
الجواب الثاني: أن النصارى قرنوا مع اليهود ، فذكر (أنبيائهم) بصيغة الجمع، وروعي في صيغة الجمع ما للفريقين جميعا من الأنبياء.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قوله: ( أَنْبِيَائِهِمْ) بإزاء المجموع من اليهود والنصارى، والمراد الأنبياء وكبار أتباعهم فاكتفى بذكر الأنبياء، ويؤيده قوله في رواية مسلم من طريق جندب: ( كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ)، ولهذا لما أفرد النصارى في الحديث الذي قبله، قال: ( إِذَا مَاتَ فِيهِمُ العَبْدُ الصَّالِحُ )، ولما أفرد اليهود في الحديث الذي بعده، قال: ( قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ).
أو المراد بالاتخاذ، أعم من أن يكون ابتداعا أو اتباعا، فاليهود ابتدعت والنصارى اتبعت، ولا ريب أن النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود " انتهى من "فتح الباري" (1 / 532 - 533).
وقال أحمد بن إسماعيل الكوراني رحمه الله تعالى:
" والجواب أن النصارى قائلون بأنبياء بني إسرائيل، أو المراد الأنبياء والصالحون أتباعهم. دل عليه رواية مسلم: (قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ). ورواية البخاري في الباب: ( إِذَا مَاتَ فِيهِمُ العَبْدُ الصَّالِحُ )" انتهى من "الكوثر الجاري" (2 / 117).
وإنما جمع بينهما في هذا الخبر، باعتبار أمرين:
الأمر الأول: أنهم تبع لهم في هذا الابتداع المحرم، فاليهود ابتدعوا اتخاذ المساجد على قبور الأنبياء، والنصارى اتبعوهم في هذا وأقروهم فاتخذوا المساجد على قبور من يعتقدون صلاحه.
الأمر الثاني: أن النصارى يعدون أنبياء بني إسرائيل - قبل عيسى عليه السلام – من أنبيائهم، فلذا يتدارسون ما ينسب إليهم من كتب كما يتدارسون الإنجيل.
وراجع للفائدة الجواب رقم : (116826).
والله أعلم.
تعليق