الحمد لله.
عيسى ابن مريم عليه السلام ، أحد أنبياء الله الكرام ، وأولي العزم من رسله ، أرسله الله إلى بني إسرائيل ، وعلمه التوراة والإنجيل ، وأخبر أنه جاء مصدقا لما في التوراة ، أي مقررا لها ومؤمنا بها ، إلا أنه نسخ بعض أحكامها ، وأباح لأتباعه بعض ما حرم فيها .
قال تعالى : ( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ . وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) آل عمران/48- 50 ، وقال سبحانه : ( وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) المائدة/46 .
قال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" (2/44) :
" وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ " فالتوراة : هو الكتاب الذي أنزله الله على موسى بن عمران ، والإنجيل : هو الكتاب الذي أنزله الله على عيسى عليهما السلام ، وقد كان [ عيسى ] عليه السلام ، يحفظ هذا وهذا " انتهى .
وقال أيضاً رحمه الله :
" وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ " أي : متبعًا لها ، غير مخالف لما فيها ، إلا في القليل مما بيّن لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه ، كما قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل : ( وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) ؛ ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بَعْضَ أحكام التوراة " انتهى .
"تفسير ابن كثير" (3/126) .
وعُلم بهذا أن عيسى عليه السلام كان مؤمنا بالتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام ، متبعا لها ، لم يخالفها إلا في أشياء قليلة .
وموسى وعيسى وجميع الأنبياء كان دينهم الإسلام العام ، وهو توحيد الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ) آل عمران/19 ، وقال تعالى : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) آل عمران/85 ، وقال عن نوح عليه السلام : ( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) يونس/72 ، وقال عن إبراهيم عليه السلام : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) آل عمران/67 ، وقال عن موسى عليه السلام : ( يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ) يونس/84 ، وقال عن يوسف عليه السلام : ( تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) يوسف/101 .
فلا يقال عن موسى عليه السلام إن دينه اليهودية ، بل دينه الإسلام ، وأتباعه سُموا باليهود إما لقولهم : هدنا إليك ، أي : تبنا ورجعنا ، أو نسبة ليهوذا أكبر أولاد يعقوب عليه السلام ، وكذلك عيسى عليه السلام دينه الإسلام وليس النصرانية ، والنصارى هم أتباعه الذين نصروره وآزروه .
لكنه عليه السلام كان متبعا للتوراة حافظا لها مقرا بها ؛ لأنه من جملة بني إسرائيل الذين أرسل فيهم موسى عليه السلام ، ثم أنزل الله عليه الإنجيل وفيه تصديق لما في التوراة ، كما سبق .
وهذا الذي ذكرناه إنما نعني به الدين الذي كان جاء به عيسى عليه السلام ، إن كان السائل يريد البحث في دينه والسؤال عنه .
وأما إن كان السائل يسأل عن نسب المسيح عليه السلام ، وقومه الذين ولد فيهم ، وبعث إليهم ، فنبي الله عيسى عليه السلام من بني إسرائيل من غير خلاف ، وبنو إسرائيل هم الذين عرفوا بعد ذلك بأنهم اليهود ، كما أشرنا .
على أن الذي يستعمله أهل العلم هنا أن ينسب إلى نسبه وقومه ، فيقال : هو من بني إسرائيل ، وأما كلمة اليهود فهي تحمل معنى دينيا خاصا ، فلذلك ينبغي اجتنابه في حق عيسى عليه السلام ، وإن كنا نعلم أنه قومه بنو إسرائيل كانوا على شريعة التوراة قبله ، وهو قد جاء مصدقا لما فيها ، وغير شيئا قليلا من أحكامها .
قال ابن الأثير رحمه الله :
" كان عمران بن ماثان [ يعني : جد عيسى عليه السلام ، والد مريم ] من ولد سليمان بن داود ، وكان آل ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم .. " انتهى .
"الكامل في التاريخ" (1/251) .
وقال ابن كثير رحمه الله :
" ولا خلاف أنها [ يعني : مريم عليها السلام ] من سلالة داود عليه السلام ، وكان أبوها عمران صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه " انتهى .
"البداية والنهاية" (2/52) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" لا ريب أن قوم موسى عليه السلام هم بنو إسرائيل ، وبلسانهم نزلت التوراة ، وكذلك بنو إسرائيل هم قوم المسيح عليه السلام ، وبلسانهم كان المسيح يتكلم ، فلم يخاطب أحد من الرسولين أحدا إلا باللسان العبراني ، لم يتكلم أحد منهما لا برومية ولا سريانية ولا يونانية ولا قبطية " انتهى .
"الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (2/94) .
وقال أيضا : " فمعلوم باتفاق النصارى أن المسيح لم يكن يتكلم إلا بالعبرية ، كسائر أنبياء بني إسرائيل ، وأنه كان مختونا ، ختن بعد السابع كما يختن بنو إسرائيل ، وأنه كان يصلي إلى قبلتهم ، لم يكن يصلي إلى الشرق ولا أمر بالصلاة إلى الشرق " انتهى .
"المرجع السابق" (3/32) .
وينظر للفائدة : سؤال رقم (10277) .
والله أعلم .
تعليق