الخميس 20 جمادى الأولى 1446 - 21 نوفمبر 2024
العربية

لماذا قُدم السجود على الركوع في قوله تعالى: (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين)؟

332673

تاريخ النشر : 04-09-2024

المشاهدات : 1840

السؤال

لدي استفسارات بسيط متعلقة بتدبر آية كريمة في كتاب الله تعالى، والتي تستهل بقوله تعالى: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ).
ما الحكمة أو العبرة من ذكر “السجود” قبل “الركوع” في الآية الكريمة المذكورة آنفا؛ علما أن الصلاة تبدأ بالقيام، ومن ثم الركوع، ومن ثم السجود؟
وما هي اللمسات البيانية أو الفائدة المستمدة من ذكر “الراكعين” بدل “الراكعات”؟
وما الحكمة من اختصاص “الركوع” لتكون ضمن “الراكعين” وليس “الساجدين” أو “القانتين”؟
وأظن أن هنالك علاقة قوية في ترتيب الكلمات ليختص الله تعالى بالركوع بذكرها في أخر الترتيب؛ لتكون محصلة مع ضمها للراكعين.
ملاحظة:
أعلم بأن الآية تحتوي على حرف “الواو”، وليس “الفاء” والتي تفيد الترتيب والتعقيب، ولكنني مؤمن بأن ترتيب كلام الله تعالى له عبرة ومغزى أيضا، وله غاية، فأتمنى ان تكون الإجابة من تلك الناحية وهي اللمسات البيانية من تقديم وتأخير الكلمات.

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

اختلف العلماء لم قُدِّم السجود على الركوع في قوله تعالى:  يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ آل عمران/43 ، فقيل:

1- لأن السجود كان مقدّمًا على الركوع في شريعتهم.

2- أو: لأن الواو لمطلق الجمع، ولا تعطي رتبة.

3- أو: لأن الأمر بطول القيام والسجود في صلاتها منفردة، لأنه لا يتأتى لها أن تؤمر بإطالة القيام والسجود في صلاة الجماعة، وخُصَّا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة.

4- “وإما لكون السجودِ أفضلَ أركانِ الصلاة، وأقصى مراتبِ الخضوع، ولا يقتضي ذلك كونَ الترتيب الخارجيِّ كذلك، بل اللائقُ به الترقي من الأدنى إلى الأعلى”، “تفسير أبي السعود” (2/ 35) .

ومراده: أن المناسب في ترتيب أفعال الصلاة في الخارج: أن يكون الركوع، وهو أدنى منزلة من السجود، قبل السجود، ليترقى من الأقل، إلى المقام الأعلى، وهو السجود بين يدي رب العالمين.

وأما الأمر بالركوع مع الراكعين، فمحله صلاة الجماعة.

قال “ابن عطية” (1/ 434) : ” لم قدم السجود على الركوع؟

فقال قوم: كان ذلك في شرع زكرياء وغيره منهم.

وقال قوم: الواو لا تعطي رتبة، وإنما المعنى: افعلي هذا وهذا، وقد علم تقديم الركوع. وهذه الآية أكثر إشكالا من قولنا، قام زيد وعمرو، لأن قيام زيد وعمرو ليس له رتبة معلومة، وهذه الآية قد علم أن السجود بعد الركوع، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك ؟!

فالقول عندي في ذلك: أن مريم أُمِرت بفَصلين ومَعْلمين من معالم الصلاة، وهما طول القيام والسجود، وخُصّا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة … وهذان يختصان بصلاتها مفردة، وإلا فمن يصلي وراء إمام، فليس يقال له أطل قيامك.

ثم أمرت- بعدُ- بالصلاة في الجماعة، فقيل لها: ( وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) ، وقُصد هنا معلم من معالم الصلاة، لئلا يتكرر لفظ، ولم يُرَدْ بالآية السجود والركوع، الذي هو منتظم في ركعة واحدة والله أعلم”، انتهى.

وانظر : “تفسير الرازي” (8/ 217).

وذكر “الراغب” في “تفسيره” (2/ 556) أوجهًا أخرى ، فقال: ” وتقديم السجود على الركوع.

قيل: لكونه كذلك في شريعتهم.

وقيل: تنبيهًا أن الواو لا تقتضي الترتيب.

وقيل: عنى بالسجود الصلاة، لقوله: (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) ، وعنى بالركوع الشكر، لقوله تعالى في قصة داود: (وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) أي شاكرًا، وهذا تخصيص للركوع بحال مقترنة به.

وقيل: نبّه بقوله: (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي كوني مع العابدين والمصلين”، انتهى.

وقال “ابن القيم” في “بدائع الفوائد” (1/ 113) : ” ومما قدم بالفضل قوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]؛ لأنَّ السجودَ أفضل، و”أَقْرَبُ مَا يَكُوْنُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ”.

فإن قيل: فالركوع قبله، بالطبع والزمان والعادة؛ لأنه انتقال من علوٍّ إلى انخفاض، والعلوُّ بالطبع قبل الانخفاض، فهلَّا قُدِّم الركوع؟

فالجواب: أن يقال: انتبه لمعنى الآية من قوله: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} ولم يقل: اسجدي مع الساجدين، فإنما عبَّر بالسجود عن الصلاة، وأراد صلاتها في بيتها؛ لأنَّ صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها، ثمَّ قال لها: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}، أي: صَلِّي مع المصلين في بيت المقدس.

ولم يُرِد -أيضاً- الركوع وحده دون سائر أجزاء الصلاة، ولكنه عبَّر بالركوع عن الصلاة كلِّها، كما تقول: “ركعت ركعتين، وأربع ركعات”، تريدُ الصلاةَ، لا الركوعَ بمجرده.

فصارت الآية متضمنةً لصلاتين: صلاتها وحدها، عبَّر عنها بالسجود؛ لأنَّ السجودَ أفضل حالات العبد، وكذلك صلاةُ المرأة في بيتها أفضل لها.

ثمَّ صلاتها في المسجد، عبَّر عنها بالركوع؛ لأنه في الفضل دون السجود، وكذلك صلاتها مع المصلين دون صلاتها وحدها في بيتها ومحرابها.

وهذا نَظْم بديع، وفقه دقيق، وهذه نُبَذٌ تشير لك إلى ما وراء، أَو تنبذك وأنت صحيحٌ بالعَرَاء”، انتهى.

ثانيًا :

وأما قوله ( مع الراكعين ) ولم يقل مع الراكعات؛ فقد سبق أن المراد به : الإشارة إلى صلاتها في الجماعة، ومعلوم أن الجماعة في المساجد ونحوها، إنما يقيمها الرجال، والنساء تبع لهن في ذلك؛ فناسب أن يكون الأمر بالركوع بصيغة الرجال، لأنهم الأصل في الجماعة. ثم إن الراكعين أعم؛ لوقوعه على الرجال والنساء إذا اجتمعوا، والراكعات يختص بالنساء، فكان الأعم أولى.

قال “الزمخشري” (4/ 105) مع “فتوح الغيب” : “ثم قيل لها: (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) بمعنى: ولتكن صلاتك مع المصلين، أي: في الجماعة، أو انظمي نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم، ولا تكوني في عداد غيرهم”، انتهى.

قال الواحدي في ” التفسير البسيط” (5/ 247 – 250): ” وقوله تعالى: {مع الراكعين}. ولم يقل مع الراكعات؛ لأن الراكعين أعم؛ لوقوعه على الرجال والنساء إذا اجتمعوا، والراكعات يختص بالنساء، فكان الأعم أولى”.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وقال لمريم: (اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) قد يكون أمرًا لها بصلاةِ الجماعة -وإن كانت امرأةً- لأنها كانت محرَّرةً منذورةً لله عاكفةً في المسجد”، “جامع المسائل” – المجموعة الثالثة ، ابن تيمية : (354).

وقال “ابن عاشور” (3/ 244): “وقدم السجود، لأنه أدخل في الشكر؛ والمقام هنا مقام شكر.

وقوله: مع الراكعين إذن لها بالصلاة مع الجماعة، وهذه خصوصية لها من بين نساء إسرائيل إظهارا لمعنى ارتفاعها عن بقية النساء، ولذلك جيء في الراكعين بعلامة جمع التذكير”، انتهى.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب